صناعة الزجاج..والإبداع

اقترن اسم بلدة الصرفند تاريخياً بصناعة الزجاج منذ أيام الفينيقيين، تعلموا سر المهنة من المصريين الذين تفننوا في تطوير أشكالها، قبل أن ينقلها عنهم الفينيقيون ويمارسونها في صيدا وصور، حيث حطوا رحالهم، وهي تعتبر اليوم واحدة من المهن النادرة في الجنوب، بل في كل لبنان، إذ أفل نجمها بعدما انتشرت في منطقتي البداوي في الشمال، والصرفند في الجنوب، لغياب الدعم اللازم لها، فأغلق معمل البداوي فيما معمل الصرفند يُعاند الإقفال ليبقى الوحيد في لبنان يواجه مصيره.
في بلدة الصرفند الساحلية الجنوبية، ما زالت عائلة آل خليفة تُحافظ على هذه المهنة، بعدما توارثه حسين خليفة وأشقاؤه عن أبيهم محمود، عن جدهم عبّاس، وقاموا بتطوير المهنة، رغم ما تتطلب هذه الصناعة من مهارات تدريبية من أجل اتقانها، والتي قد تستغرق نحو 5 سنوات، على أن أهم متطلبات العمل في هذه المهنة، هو تحمّل مشقة العمل أمام فرن النار، وتوافر الروح الإبداعية والفنية.
أكدت نسرين خليفة أن بلدة الصرفند عرفت هذه المهنة منذ 1700 عام، وقد تطورت بشكل واضح بعدما توارثها أبناء البلدة من جيل الى آخر، الى أن استقرت في عائلة خليفة وحدها.
وأضافت "لقد ورثنا المهنة منذ عقود طويلة من الأجداد الأوائل الى الآباء، حيث يعمل فيها اليوم معظم أفراد العائلة، وهي مهنة الرجال بامتياز، لا النساء، كونها تحتاج الى قوة وصبر وتحمل شدة نار الفرن، حيث تتضافر جهودنا جميعاً من أجل الحفاظ عليها من الإندثار".
وتابعت: "إن المهنة تحتاج الى الكثير من الدقة والاتقان، وتعلمها يتطلب وقتاً طويلاً، وفي نهاية المطاف، فإن المهنة تحتاج الى فريق عمل متكامل لا يستطيع فرد بعينه القيام بها وحيداً، ففي المهنة ارهاق وتعب، وخصوصاً لحظة تشكيل الزجاج، إذ يضطر المعلم أن يجلس قرب الفرن لساعات وأمام حرارة تصل الى 1400 درجة مئوية، وهذا أمر في غاية الصعوبة".
تحتاج مهنة الزجاج الى أدوات كثيرة مثل اسطونات الأوكسجين، وأنابيب الغاز، وجهاز ضغط الهواء، ومشعل للنار يستخدم لصهر الزجاج، اضافة الى الأداة الحديدية اللازمة للتشكيل، والتي تختلف بأنواعها وأحجامها، ومجموعة من الأدوات النحاسية التي تستعمل لصب الزجاج لدى انصهاره، الملاقط للتحكم بالقطع أثناء التشكيل وقسطل النفخ.
أما صناعة الزجاج فهي تمر بمراحل عديدة أولاً يتم اشعال نار الفرن حتى تصل الى درجة 1400، ثم يبدأ العمل بوضع الزجاج المكسور لينصهر داخل الفرن الذي هو عبارة عن حجرتين يفصل بينهما ممر، في الأولى يتم ادخال الزجاج المكسور على دفعات، ويحتاج الى 30 ساعة ليذوب، ويصبح نقياً وصافياً وخالياً من الشوائب.
ثم ينتقل الى الحجرة الثانية من خلال الممر، حيث يقوم المعلم بالتقاطه بواسطة قسطل تتم تحميته مسبقاً، ويبدأ بالعمل على الشكل الذي يريده بواسطة النّفخ بأنبوب من الحديد الفولاذ المزيبق، وبعدما يلوّح في الهواء ويدخل إلى الفرن ويخرج عدّة مرات لتشكيله وقولبته، يدخل إلى المشوى، حيث تبدأ عملية التّبريد من حرارة 500 درجة إلى مئة تقريباً ولمدة 3 ساعات، بعدها يقوم الحرفي بوضع القطع في المياه، ويصبح بعدها زجاجاً نقياً جاهزاً للعرض.هذا، وأكدت خليفة أن تكلفة الصناعة اليومية إذا شغلنا الفرن، لا تقل عن 200 دولار أميركي، منها 120 دولاراً للمازوت، ويحتاج الفرن إلى مناوبة 6 معلمين على مدى الساعات الأربع والعشرين، عندما يشغل الفرن، وكنا سابقاً نشتغل 3 أشهر حتى نرتاح شهراً، اليوم أصبحنا نشتغل 3 أشهر في العام فقط، وعندما نشغل الفرن لا يُمكن أن نوقفه قبل تصنيع الكمية المقررة، فهو يحتاج إلى نحو 36 ساعة حتى يبدأ بالتذويب والتحضير للتصنيع من أجل أن يُعطي النتيجة المقررة، وإذا توقف ساعة واحدة يحتاج إلى 6 ساعات في مقابلها من التشغيل حتى يستعيد حرارته المطلوبة للتذويب، وهي 1400 درجة مئوية.
وتعتز نسرين بالألوان الزاهية التي تُميز بها صناعة الزجاج، حيث تخطف الأبصار منذ الوهلة الأولى، إذ أن الزجاجيات تتنوع بين الأحمر والأزرق والأخضر والعسلي والأبيض الشفاف، ويتم صبغ هذه القطع الزجاجية بواسطة المواد الأوكسيدية التي ينتج عنها هذه الألوان، وأشكال الزجاج لا تعد ولا تحصى، فهي تعتمد على الفن والإبداع، وهي في تطور مستمر، وفي كل يوم هناك تصاميم جديدة ومبتكرة وعصرية تناسب جميع الأذواق، أنا استلم طلبيات الزبائن، نجمعها، وعندما تكثر يقوم معلمو الفرن بتصنيعها، 50% من الزيائن يحضرون الموديل معهم، سواء من الصحف أو المجلات أو ديكور الأعراس، بينما 90% نعمل على الطلب فقط، إذ يقصدنا مهندسو الديكور ومتعهدو الحفلات والأعراس والمطاعم والفنادق، حيث لكل منهم تصاميم مبتكرة وخاصة به، وتتراوح الأسعار ما بين 4 دولارات و500 دولار وفق الطلب والنوع والحجم
ولكن تعترف نسرين في المقابل أن عملية تصريف الإنتاج تعتمد بالدرجة الأولى على المحترف بالقرب من الفرن، الذي يتم فيه عرض المصنوعات، وقد بات مقصداً للكثير ممن يرغبون في اقتناء الصناعات الزجاجية اليدوية بعيداً عن الآلات والماكينات، التي سريعا ما تنكسر، اضافة الى المعارض، حيث شاركنا في الكثير منها داخل لبنان وخارجه، ومنها معرضين في فرنسا معرض العالم العربي في العام 1999، ومعرض مون بليه في العام 2001، ومعارض أخرى في دبي وألمانيا، أما داخل لبنان، فكانت مشاركتنا في معرض ذوق مكايل في السوق القديم وفي مركز سيتي مول.
وشددت على أن صناعة الزجاج وتطورها له دور في تنشيط السياحة، فهي عامل جذب للسياح، والعديد منهم يقصدون المحترف لشراء بعض الهدايا والتذكارات والقطع الزجاجية، كتراث للاحتفاظ بها داخل المنازل، ويصل عدد السياح الى نحو ألفي سائح في العام.
وتختم خليفة بالتأكيد أنه على الرغم من أهمية المهنة كونها من التراث اللبناني، إلا أنها اليوم باتت مهددة بالإنقراض والزوال لأسباب كثيرة، ومنها الاوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع كلفة الإنتاج مقابل عدم تصريفه، فضلاً عن غياب دعم الدولة ومؤسساتها لهذه المهنة، منافسة البضائع الأجنبية من الصين والهند، التي تغزو الأسواق بكميات كبيرة وبأسعار أقل، عدم مرور السياح على الخط الساحلي القديم كما كان الحال في السابق، حيث كنا نتفق مع شركات السياحة لتنظيم زيارات مستمرة الى المحترف، وبالتالي فإن كل محاولاتنا لاحياء المهنة باءت بالفشل، ورغم ذلك مستمرون فيها وبتوريثها الى أبنائنا، ولولا قناعتنا بأنها تراث لأقفلنا المحترف منذ زمن.

السابق
شمس الدين يستنكر ما يجري في البحرين.. العنف لا يفيد
التالي
التوحيد: نحترم موقف الجماعة الاسلامية لانها لم تساوم يوماً على المقاومة او القضايا الاسلامية في الامة