الوطــن هـــو الرجــل

في خواطر لـ"الملحق" الاحد الماضي، كتبت سمر جابر انها تجلس امام التلفزيون في انتظار ان تسمع خبر سقوط القذافي. نحن الذين انتظرنا طويلا اخبار السقوط في العالم العربي، كنا نخشى في داخلنا ان يكون الذي سوف يسقط، هو ليبيا. منذ ان قال العقيد لشعبه "ارقصوا وغنوا" ادركنا انه سوف يلازم الحلبة حتى الرقصة الاخيرة.
تعلمنا، من السنين والاحداث والتجارب، ان الحاكم العربي لا يذهب الا ويأخذ بلده معه. لانه ما ان يصل الى السلطة، حتى يتراءى له، بل حتى يرى، انه لم يرث الحكم الذي سبقه، بل ورث ارادة الله. ولم يصبح رئيسا بل نبيا. ولذلك كان من اول الكتب التي استألفها القذافي، وهو بعد في الثامنة والعشرين، كتاب وضعته مستكتبة فرنسية، يومئ الى نبوءة الرجل الذي جاء من الصحراء حيث رعى يافعا الغنم. الم يكن الانبياء رعاة مثل الملازم معمر؟
اعاد صدام حسين كتابة سيرته وهو يتربع على صدر العراق، فاكتشف انه ليس ذلك الصبي البائس في تكريت، حارة الفقراء، وانما هو رجل تحدر من سلالة الرسول. وقد عثر طبعا على مؤرخين وموظفين ومستقربين، يحملون ختم المصادقة. بما يتمتع به من صفات خارقة، حوّل صدام حسين خلال ربع قرن، بلده العراق، بلدا يتفكك بذهابه. وبصفة كونه منقذا للعالم اجمع من عهود الرأسمالية والاشتراكية، جعل معمر القذافي ليبيا بلدا لها ماض واحد وحاضر واحد ومستقبل واحد. والثلاثة لها اسم واحد: الاخ القائد.
لم يتنازل الى قبول اي لقب مألوف: هو ليس رئيسا مثل سائر الرؤساء البشر، وليس ملكا مثل الملوك، بل هو ملك ملوك افريقيا. فكيف يجرؤ شعبه، بعد 42 عاما من التسلط، على التفكير في مناقشته؟ علي وعلى اعدائي. تلك هي النزعة التوراتية. لا يترك شمشون الهيكل لأهله وللمصلين، بل يهدمه، محولا كل شيء ركاما.
حين شاهدت مرة صورة رجل يفتح زجاجة شمبانيا فوق سقوط الكرنتينا، كتبت ان ثمة انتصارات اكثر بشاعة من الهزائم. كذلك تبدو استعادة الفرق القذافية مدن الغرب الليبي. وكما ان العراق لن يعود كما كان، بعد سنوات من التكبر ثم الحصار ثم الاحتلال، فإن ليبيا لن تبقى كما كانت، بعد كل هذين التحريض والتنكيل، وما هو اسوأ، اي سوق الاهانات السوقية الى من يعرف تماما انهم اكثرية الناس التي يطلق في اثرها اقلية الرعاع.
تأملت علامات الساعة التي ضربت اليابان، الملاحقة باللعنة الذرية، وتساءلت، من اقسى على الانسان؟ هياج البحار ام هياج البشر؟ ومن اكثر رفقا بالبشرية، الارض التي لا تكف عن تذكيرها بضعفها وعطوبها وهشاشتها ام المتجبر الذي بيده يمحو البيوت والناس ويجرف الشرفات والاطفال؟ نحن نعيش لحظات تاريخية، ليس في احجامها، فجميعها لها سابقات في التاريخ المعذب او المشين، وانما في دلالاتها. ففيما يهب شعب عامل، خلاق، مثل اليابانيين الى تدارك انفلات جنون الطبيعة والعلم معا، نرى بلادنا تسقط خلف متملكيها، من العراق الى ليبيا وغدا الى اليمن، حيث لم يعد واضحا ان كان القيّم على البلد مكلفا او متصرفا، كما في القاموس العثماني، الذي حوّل الناس عبيدا.
كنت دائما استفظع لقب "السلطان". كم فيه من الاذلال وفروض الانحناء. وقد عجبت من ان قابوس بن سعيد، نقل عُمان من القرن الخامس الى القرن العشرين، ومع ذلك ابقى اسم السلطان والسلطنة. وربما كانت عمان، من كل النواحي، افضل تجارب العمران والتقدم في العقود الاخيرة، نسبة الى ما كانت عليه، وما صارت اليه، لان الفارق بين المرحلتين خيالي. ومع ذلك، فلماذا السلطان؟ لماذا هذا اللقب الذي تخلى عنه الجميع، الا في بروناي؟ ولكن ماذا يجمع بروناي، التي لا تزال ادغالها خارج اطار الانسان البدائي، فيما قطع العمانيون منذ وصول قابوس قرونا باكملها؟كيف واجه "السلطان" قابوس مطالب المعترضين، بالمقارنة مع الثائر العظيم وصاحب النظرية الثالثة، معمر القذافي؟ سارع قابوس، الى التنازل عن بعض صلاحياته. وسارع الى تلبية عدد كبير من المطالب. ولم يرسل الجيش او الشرطة تطارد الناس وتعتقل الشبان في بيوتهم وترمي في السجون بكل من تشاء، حتى المراسلين الدوليين.
قال لي الدكتور عبد الرحمن شلقم، وزير خارجية ليبيا السابق، ان سيف الاسلام القذافي يهدد البلاد بالقبائل، وهو يعرف ان في ليبيا 16 الف متخرج من الجامعات الاميركية وحدها. لا يزال القذافي يعتقد ان ليبيا هي التي استولى على السلطة فيها عام 1969. رفض صدام حسين القادم من تكريت ان يرى ان جميع الهاربين منه اساتذة في جامعات اميركا. نسي زين العابدين بن علي ان تونس ليست تقارير الشرطة التي كان يضعها، او التي صارت تصل اليه. دخل حسني مبارك في غيبوبة الحكم وخدر السلطة ولم يعد يرى في 84 مليون مصري سوى ابنه. قامت الحروب من حول علي عبدالله صالح، فيما هو غافل يعد لتوريث عقيد آخر، ابنه. لقد نظروا الى الاوطان وكأنها ثكنة، يتحرك اهلها بموجب الاوامر. بدأ صدام حسين زعامته بمحاربة العسكريين في "البعث"، وما لبث ان ارتدى بزة عسكرية وراح يرسم خرائط الحروب. قاد بهذه الصفة حربا على ايران كسرى. وحذف الكويت من الوجود وجعلها المحافظة الاخيرة في العراق. وعندما رأى 700 الف جندي و33 دولة تستعد لمحاربته لجأ الى الشعر العربي. وكذلك فعل في مواجهة الاحتلال الاميركي وطائرات "الستيلث".
طغت اخبار فوكوشيما على اخبار ليبيا. مسكينة اليابان، هي وهذا الحظ. كم اتقنت فنون الحياة، "الغيشا"، الميكادو، الامبراطور، وكم هزمتها نوازل الموت. رفضت، بعد هيروشيما وناغازاكي، ان تكون لها قوة نووية لكنها ظلت في حاجة الى الطاقة النووية. فاذا الزلزال يحول الطاقة اشعاعا وخوفا ورمادا. بدأ ألان رنيه "الموجة الجديدة" في السينما بفيلم "هيروشيما حبي". الآن اصبحت "الموجة الجديدة" ذكرى قديمة. صار العلم مخيفا كما تكهنت افلام الرعب وادوار فنسنت برايس. سلم الانسان نفسه الى الآلة فإذا بها تنفجر في وجهه. وكان قد سلم نفسه الى الطبيعة، فاذا بها تخدعه. واستسلم الى الانسان، فاذا هو يغتصب السلطة ثم يعيد اغتصابها.

السابق
عبثاً نحاول
التالي
ثمار على غصن قوي