معوّقات مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان

هذه المقالة غير مبنية على تنظير مجرد، بل نتاج عمل خاضته الكاتبة مع رفاق آخرين في الساحتين اللبنانية والعربية، وما زالت تخوضه وإن بعزيمة أوهن بسبب معوّقات كثيرة ستكون هي موضوع السطور الآتية.
أول معوّقات عمل المقاطعة في لبنان هو عدم وجود "ثقافة مقاطعة" راسخة في الوعي والأذهان، على الرغم من تعرض بلدنا لموجات متلاحقة من مختلف أشكال المقاومات المعادية لإسرائيل. فالحق أن مقاطعة الشعب العربي للشركات الداعمة لإسرائيل بين عامي 1948 (تاريخ نشوء الكيان الغاصب) و1993 (تاريخ توقيع اتفاقيات أوسلو المشؤومة) لم تأت نتيجة لقناعة شعبية مسنودة إلى أبحاث تبيّن كيفية دعم هذه الشركات للعدو، بل أتت انسياقاً مع قرار النظام الرسمي العربي (جامعة الدول العربية) القاضي بعدم السماح للشركات العاملة في الكيان الصهيوني بالعمل في البلدان العربية. وحين انفرطت المقاطعة الرسمية العربية مع توقيع اتفاقيات أوسلو ووادي عربة (بعد كامب ديفيد)، لم يجد الناشطون العرب المناصرون لقضية فلسطين، ما يستندون إليه من معلومات ووثائق يواجهون بها المستسلمين ومثقفي السلطة ويبيّنون لهم ضلوع الشركات المذكورة في دعم إسرائيل.
لقد كانت مقاطعة العرب لإسرائيل وداعميها حتى العام 1993 من قبيل "تحصيل الحاصل"، لأن الدولة العربية بأسرها كانت تقاطع العدو، بيد أن الوضع تغير جزئياً بعد العام 2002، وذلك ببروز حملات مقاطعة شعبية، غير مرتبطة بأي نظام، ترتكز في عملها على الأبحاث والإحصاءات والأرقام، وفي طليعتها "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل ـ لبنان".
المعوّق الثاني لعمل مقاطعة الشركات الداعمة للكيان الغاصب في لبنان (كنستله وكاتربيلر وماكدونالدز وكوكا كولا واستيه لودر..) هو أن المقاومة الوطنية اللبنانية نفسها، بجناحيها القومي ـ اليساري والإسلامي على السواء، لم تتبن المقاطعة إلا لفظاً في أحسن الأحوال. فحزب الله لم يمارس فعل المقاطعة في معظم الحالات، ولا سيما ضد شركة سويسرية كبرى داعمة للعدو، على الرغم من تقديمنا المعلومات اللازمة إلى عدد من مسؤوليه؛ ولطالما سمعنا من أنصار الحزب من يسخفنا قائلاً إن الحزب يكفيه شرفاً أنه حارب إسرائيل بالسلاح، فكان جوابنا دوماً: سيكون أشرف له بالتأكيد أن يقاتل إسرائيل باليد اليمنى وأن يقاطعها باليد اليسرى، بدلاً من أن يقاتلها بالأولى ويسهم بالأخرى ـ على الرغم من حسن النيات ـ في التغطية على داعميها!
أما الأحزاب القومية ـ اليسارية، فكان دعمها للمقاطعة خجولاً، يكاد ينحصر في طباعة الكتيبات والمشاركة في بعض الاعتصامات أمام ستاربكس وماكدونالدز، بل إن تناول الإعلام الوطني والإسلامي لموضوع المقاطعة يكاد ينحصر في أحسن الحالات في بعض مقابلات مع عدد من ناشطيها، أو في تغطية خفرة لبعض أنشطتها.
المعوق الثالث لعمل المقاطعة هو تشتت نظرة اللبنانيين إلى العدو وإلى مفهوم العدو. فبعد مقتل الرئيس الحريري تحول عداء عشرات الآلاف في لبنان إلى سوريا بدلاً من إسرائيل والصهيونية. ولم يتغير الوضع كثيراً حتى اليوم، على الرغم من تبرئة الشيخ سعد النظام المذكور من دم أبيه؛ بل تحولت ضغينة عدد كبير من اللبنانيين إلى حزب الله (وإلى الشيعة بمجملهم أحياناً) بدلاً من إسرائيل، بعد حرب تموز 2006 وأحداث 7 أيار 2008 وبعد التلميح "الدولي" إلى ضلوع الحزب في قتل الحريري (أكتب هذه الكلمات قبل صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية).
ومن المؤكد أنه، في جو كهذا، جو يصف المقاومة بالعبث والتخريب وحب الموت، ويصف إسرائيل بـ"الجار" أسوة بسوريا يصعب أن تنشط مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل.
المعوق الرابع مرتبط بما سلف، وهو تضعضع الفكر القومي في ساحة لبنان، ما عادت فلسطين هي القضية المركزية لدى عشرات آلاف الناس في لبنان، بمن فيهم بعض القوميين واليساريين السابقين، علماً بأن هدف المقاطعة ليس مجرد "التضامن" مع فلسطين بل هو جزء لا يتجزأ من أجندة نضالية لبنانية في مواجهة كيان لم يكف منذ تأسيسه عن ارتكاب الجرائم والمجازر في لبنان وانتهاك سيادته وأمنه واستقراره. وبدلاً من أن تتجاوز قضية "التغيير الديموقراطي" في لبنان مع عملية "تحرير فلسطين"، حلت لدى الكثيرين القضية الأولى محل الثانية، بل اعتبرت الثانية من مخلفات فكر الأنظمة العسكرية "البائدة"، وكأن تشدق هذه الأنظمة بتحرير فلسطين زوراً يمحو عدالة هذا التحرير، أو كأنه يمكن حصول تغيير ديموقراطي في لبنان بوجود احتلال وخرق للسيادة وتجسس وسرقة مياه… وليس غريباً، والحالة هذه، أن معسكر 14 آذار بأطيافه كافة، لم يتحدث عن تحرير كامل فلسطين، ولا عن القضاء على الصهيونية، وإنما تبنى طرح السلطة الفلسطينية لما يُزعم أنه "الحل العادل والشامل" للمسألة الفلسطينية: دولة فلسطينية ذات سيادة (!) على حدود 1967.
المعوق الخامس هو تخاذل المنظمات الفلسطينية في لبنان، هي نفسها، وبلا استثناءات تذكر، في تعزيز مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل. أليس غريباً أن تكتظ الدكاكين الصغيرة داخل أزقة المخيمات الفلسطينية الفقيرة في لبنان بمنتوجات هذه الشركات (ككوكا كولا وفيليب موريس ونستله)؟ أليس بديهياً أن يكون المقاطعون الأوائل هم أبناء الشعب الفلسطيني في لبنان؟ أليس مفترضاً أن تعمد الفصائل هناك، وان استثنينا الدحلانيين لأسباب مفهومة، إلى حملة توعية تفضح الشركات المذكورة عبر حملة يافطات ومنشورات وندوات؟
المعوق السادس هو عجز حملة المقاطعة في لبنان عن زيادة عدد عناصرها وتطوير كفاءاتهم البحثية والإنترنتية. فعمل المقاطعة، لا يستند إلى قوة العضلات، ولا إلى اللغو الشعاراتي، وإنما يستند أولاً وأساساً إلى بحث دؤوب في المواقع الإلكترونية عن كيفية دعم الشركات للعدو. والحال أن العمل البحثي في لبنان انحصر بين العامين 2002 ـ 2006 في مجموعة صغيرة لم تتجاوز الأربعة في أحسن الأحوال، وهذا ما أدى إلى تعطل فاعليتها بعد زمن. والأمر عينه ينطبق إلى حد ما على عمل المقاطعة خلال العامين الفئائتين، وهو عمل اتخذ منحى فضح الفنانين العالميين الذين زاروا لبنان بعد أن أحيوا حفلات في دولة الاغتصاب الصهيوني على الرغم من عدوان تموز ومجازر غزة ومذبحة أسطول الحرية في المياه الدولية: فقد بقي العمل البحثي محصوراً في حفنة أفراد.
المعوق السابع هو ضعف التنسيق بين حملات المقاطعة العربية، والدولية في ما بعد. ومن الواضح أن شحة الموارد المالية سبب مهم من أسباب قلة التنسيق بين ناشطي المقاطعة.
المعوق الثامن، وربما الأهم، هو فقدان الأمل لدى أعداد كبيرة من الشبان اللبنانيين في إمكانية تحقيق أي نصر عربي بأي طريقة كانت! نعم، يغلب على الناشطين اللبنانيين الشبان، باستثناء شبان حزب الله في الأساس، شعور بالعبث المطلق من أي تحرك. ولهذا الشعور أسباب على رأسها: غياب المتابعة جراء تهلهل العمل المؤسساتي داخل أكثر الأحزاب، وقلة التثقيف بتجارب المقاطعة العالمية الناجحة.
لكن ثمة اليوم مؤشرات على رغبة أطراف سياسية وطالبية لبنانية (مثل التحالف الوطني الديموقراطي والحركة الوطنية للتغيير الديموقراطي) في إعادة إحياء المقاطعة الشعبية لداعمي إسرائيل. كما تجري محاولات حثيثة لتفعيل لجنة جديدة "لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" استناداً إلى مقاربة تركز على مبادئ حقوق الإنسان.
إن عزل إسرائيل يجري اليوم بثقة كبيرة في أنحاء عديدة من العالم. وهذا يتم بفضل "الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها"، وهي حملة يقودها فلسطينيون يمثلون أكبر تحالف لقوى المجتمع المدني الفلسطيني. كما أنه يجدر التنويه بالدور الكبير الذي تؤديه كل من "اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل"، و"الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل". وواجبنا كلبنانيين في لبنان وفي المغترب، وكفلسطينيين في لبنان والشتات، وكعرب في كل مكان، أن نكون في طليعة هذا المجهود.

السابق
شكوى الى مجلس الأمن ضدّ خرق إسرائيل للمياه الاقليمية
التالي
البطريرك بشارة بطرس الراعي :”شراكة ومحبة” هذا هو شعار خدمتي