ساحة الحرية كانت فارغة

لم يكن في ساحة الحرية يوم الأحد الفائت سوى قادة 14 آذار، سعد الحريري ورفاقه.
لم ينزل الناس من كل المناطق لإعلان موقف واحد وحاسم: لا للسلاح في الداخل.
وحدهم الخطباء كانوا في الساحة. خاطبوا أنفسهم وسمعوا تصفيق أياديهم.
هذا ما تريد قوى "حزب الله" المعروفة باسم 8 آذار ان تقنع اللبنانيين والعرب والعالم به. ما همّ . ربما على 14 آذار ان تقرّ بذلك، ولو كذباً ومسايرة، لتجهض محاولة نقل النقاش الى غير موضعه، فما تتجنب هذه القوى تبيانه هو ردها على الأسئلة المصيرية: هل طلب اخراج السلاح من الحياة العامة صواب أم خطأ؟ وهل بقاء سيف الترهيب، بالقمصان السود، أو برمي الحجارة على العائدين من ساحة الحرية الأحد، أمر منطقي ومقبول، ومن علامات الديموقراطية والمساواة؟ وهل منع طوافات الجيش من التحليق فوق سجد (وغيرها)، كما اعترف المسؤول عن الارتباط والتنسيق في الحزب نفسه، في منطقة اقليم التفاح، حيث استشهد النقيب سامر حنا، أمر يعزز سلطة الدولة ومواجهة العدو الصهيوني؟ وهل تحويل كل اعتراض شعبي، واقعي أو مفتعل، معولاً يهدم الاستقرار الأهلي والسلم الداخلي بحجة سعر الرغيف وتقنين الكهرباء، هو ما يخدم وحدة البلاد، من دون السؤال عن مرامي الهتافات المذهبية وما يخرج تحت وهجها من شتائم تشتق منها؟
 هذا التعامي عن مواجهة لبّ الأزمة بالهروب الى لغة التلويح بالفتنة والاتهام بالتخوين يذكِّر بخطاب العقيد معمر القذافي في مواجهة المنتفضين على ديكتاتوريته وطغيان مصالحه ومصالح أبنائه على مصالح شعب بأكمله. فهو، إلى جانب نعته الثائرين على ظلمه وتماديه في التعطش الى السلطة، بالجرذان والمأجورين، وإنكاره وجود تظاهرات في طرابلس وبنغازي وبرقة وغيرها، يجزم بأنه ليس مسؤولا ولا رئيسا بل هو قائد ثورة، ولأنه كذلك فإنه فوق أي نقاش وليس في مواجهة أي انقلاب.
الذين يعرفون ليبيا عهد الملكية ثم عهد ما سمي ثورة، يقرّون بأن القذافي نقل بلاد عمر المختار إلى شبهة حداثة لم تكن لتقترب منها إبان حكم السنوسية. فهو على تقلب موجات مجونه السياسي، بين الوحدات العربية المنهارة والأحلام الافريقية الفولكلورية، وتنظيراته في علم السياسة من بيان سلطة الشعب إلى الجماهيرية العظمى، فملك ملوك إفريقية، أقام البنى التحتية اللازمة والعمارات الشاهقة وكل مادي يشي بتقدم، لكنه في المقابل، احتكر كل قدرات السلطة مع ادعاء عدم إدارته لها، ومنطقه أنه هو من "أنقذ" الليبيين من السنوسية ووفر النقلة الحضارية لهم وواجه قوى العالم نيابة عنهم وما عليهم سوى رد الجميل بالصمت والقبول.
هو المنطق نفسه الذي استعمله حسني مبارك المصري وزين العابدين بن علي التونسي: الأول منّن المصريين بحرب أوكتوبر وكأنه خاضها وحده ولم يكن معه مليون عسكري مصري. الثاني منّن التونسيين بأنه صان الدولة لهم ونمى اقتصادها ونسي أن من استفاد من الأموال المتدفقة لم يكن سوى أفرادعائلته.
تعامَلَ الثلاثة مع شعوبهم كدمى ستظل تسير بحركة من يد كل منهم. لكن لحظة الحقيقة كانت أقوى من الفتنة بين القبائل والمناطق وبين العسكر والمدنيين في الدول الثلاث. منّة الرؤساء الثلاثة على شعوبهم هي من جيب هذه الشعوب التي تحمّلت، ومن حقها أن تنعم بالحياة لا أن تبقى أسيرة لحظة تاريخية انقضت، لكن أهميتها في أن تكون دربا الى حياة أفضل لا قيداً يأسر وثقلاً يشد الى الماضي.
في لبنان تحولت المقاومة إلى لافتة يريد مَن يحملها أن يخفي حقائق ما يجري تحتها، وأن يعمي الآخرين بوهجها عما يرسم من ورائها: اندحر الاحتلال عام 2000 بإجماع قدرات اللبنانيين ووقوفهم مع المقاومة منذ عملية الويمبي الى "حزب الله" وقبله جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. بعد ذلك، صار المطلوب صياغة نمط جديد للمقاومة ورؤية جديدة، الى أن جاءت حرب تموز 2006 لتحل قوات "اليونيفيل" قوة أمان للجنوب. فكان أن اطمأن الحزب الى حال أهله جنوبا وتحول إلى الداخل لتثمير نصره على الخارج، تماما كما القذافي مع الليبيين ومبارك مع المصريين وبن علي مع أهل تونس: أنقذْتُكم لأتحكّم بمصائركم. أنا ربكم الأعلى؟!
ما قالته التظاهرة المليونية الأحد: نعم للمقاومة في وجه اسرائيل لا لسلاحها في الداخل، نعم للمقاومة في إطار قرار الدولة اللبنانية لا في إطار أي استراتيجية غير لبنانية، هو كلام لا يتوازى والتخويف بفتنة على طريقة القذافي ونجله الذي يشبه كثيرين في محيط الحزب.
لكن الرد ليس في المستوى المفترض للنقاش: اطلقت العيارات اللفظية يمنة ويسرة وباتت الدعوة الى استراتيجية دفاعية خيانة وطنية وإلغاء للعداء لاسرائيل وحضا على الفتنة. وتحول طلب إخراج سلاح الفتنة ضربا لسلاح المقاومة، على ما قال أمس أحد نواب الحزب.
كلام سمعنا ما يشبهه في تونس ومصر ومن "ملك ملوك إفريقيا" بإيقاعات مختلفة مفادها جميعا: أنا أو لا أحد. الجواب حق للكل وليس لأحد وحده. وهو جاء من الدول الثلاث حيث سقطت عن عروش الحكم الاستبدادي العائلات بأشكالها المختلفة من اهلية وحزبية وقبلية وجهوية.
الحياة خلاصة تجارب، بعضها نعيشه وبعضها يكفي أن نستخلصه من مسارات الآخرين.
ساحة الحرية كانت شاغرة إلا من محمد البوعزيزي، لكنكم لم تروه.
 

السابق
الاكثرية : الولادة «السبت» وعقدة الداخلية تراوح مكانها
التالي
اختبـار لإيـران