ما بعد التظاهرة

كان الحشد استثنائيا، والخطاب إشكاليا. لم يرتفع الى مستوى المناسبة، ولم يبدد اللغز، ولم يحدد معالم الطريق الى أي هدف، سواء كان سلاحا منبوذا، او محكمة منكرة، او شرخا يزداد عمقا يوما بعد يوم.
لا يمكن ان يكون الحشد الكبير موجهاً فقط ضد بضعة كلاشنيكوفات جاهزة للانتشار في الشوارع في اي لحظة، ولا ان يكون هادفا الى حماية محكمة دولية يعرف انها تتمتع بغطاء إلهي لا يرد، ولا ان يكون مصوبا نحو إسقاط الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ومنعه من تشكيل حكومة جديدة، صارت اسماؤها معروفة، وبات يمكن، بعد ما جرى في ساحة الشهداء امس، ان يضاف اليها اسم او اسمان للتحدي او الاستفزاز ليس الا.
لم يكن الخطاب متناسبا مع العدد الضخم، ولا مع الذكرى السنوية السادسة التي استعيدت بعض ملامحها التفصيلية، وغابت الملامح والتحديات الاكثر اهمية التي لا تحرج احدا ولا تضطر احدا الى مراجعة التجربة ومناقشة الاخطاء، وتحافظ على حلم السلطة مرفرفا فوق رؤوس الجميع، وتزيل الخيط الرفيع بين الموالاة والمعارضة الذي لم يميزه احد من اللبنانيين يوما.
 لم يكن الخطاب منسجما حتى مع بعض الاشارات الخفية التي صدرت في الآونة الاخيرة وأوحت بأن ما جرى في وسط بيروت قبل ست سنوات بالتحديد، كان علامة عربية فارقة، وبداية واعدة. لعل انباء ثورة ليبيا التي لا تسر احدا، ولا تبشر بالخير لأي شعب عربي يريد تغيير نظامه، هي التي حالت دون المضي في ذلك الفصل حتى النهاية. لكن الخوف لم يكن سببا رئيسيا. كان ثمة قدر من التواضع الطارئ، وكان ثمة قدر من التسليم الضمني بأن المكان والزمان، والخطباء والجمهور، ليسوا مؤهلين لمثل هذا النقاش الجدي.
قبل ست سنوات، كانت لحظة تغيير حاسمة أنجزت على المستوى المحلي ما يعادل ثورة، وحققت على المستوى الاقليمي ما يساوي تحولا استراتيجيا، لكن الثورات المضادة التي أعقبتها والتي أفرغتها من مضمونها لم تكن وليدة الصدفة ولا الفراغ ولا قوة الخصوم. ثمة سلوك حائر، وبرنامج فارغ أديا الى تلك الخيبة التي انتهت بتحجيم الصراع الداخلي الى مشكلة مع الكلاشنيكوفات غير المنضبطة في الاحياء، او الى معضلة حول محكمة دولية لن تكون الا سببا لاشتباك اهلي.. يأتي بعده دور المسامحة والمصالحة الشاملة في احدى عواصم العرب.
لم يكن يتوقع ان يخرج الخطاب عن طابعه العاطفي المجرد من أي محتوى سياسي. لكن كان مرتقبا ان يقول الخطباء لذلك الحشد الهائل، ما هي الخطوة التالية بعد مغادرة ساحة الشهداء ولغتها العفوية، وما هو الموعد الآتي، الذي لا يمكن ان ينتظر حتى 14 آذار العام 2012. ثمة مساحة لا بد ان تشغلها السياسة وان تحددها التعبئة، التي لا تقتصر على قرارات ظنية ستكون اشبه بعبوات ناسفة. الخروج الى المعارضة لم يقنع احدا من الجمهور اللبناني الذي لا يدرك الفارق بينه وبين الموالاة.
التظاهرة كانت حاشدة. لكن الخطاب كان ضحلا .. لحسن حظ الفريق الآخر.
 

السابق
أبعاد لا يمكن تجاهلها لاستعادة مشهد “الانتفاضة”
التالي
النصف ناقصاً واحداً