طائر يغرد خارج سربه

في الدورة الرابعة والاربعون التي عقدها مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، في بكركي ما بين 14-19 شباط 2011، القى المطران سليم غزال مداخلة تحت عنوان الحوار بين الاديان، كانت متميزة بين المداخلات الاخرى، وبدا غزال من خلالها وكأنه طير يغرد خارج سربه، اذ قال فيها :
"ينعقد مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك هذه السنة في ظل ظروف دقيقة وإستثنائية، وفي مرحلة جديدة للحضور المسيحي في لبنان والمنطقة، وذلك بعد انعقاد سينودس الأساقفة الكاثوليك بجمعيته الخاصة بالشرق الأوسط، ونحن نعيش في قلب التحوّلات السياسيّة والأمنيّة التي تشهدها المنطقة، وخاصة الاعتداءات الإرهابية التي تطال المسيحيين في العراق ومصر، وما يشهده السودان من تبدلات في السياسة والجغرافيا والكيان.
إن الوضع العام في منطقة الشرق الأوسط يدل على تنام خطير للتطرّف والإرهاب بإسم الدين. يقابل ذلك موقفان: الأول من قبل بعض القوى السياسية المحلية ومن القوى الغربية بالإضافة إلى توجه واضح جديد لدى الكرسي الرسولي في اعتبار المسيحيين في دول الشرق الأوسط أقليات مهددة في وجودها، وتحتاج لعناية خاصة للحفاظ عليها. وموقف ثان يكمن في تغذية مفهوم الإنعزالية بين صفوف مسيحيي المنطقة أنفسهم ودفعهم إلى اتخاذ إلى مواقف طائفية وجماعوية يعتقدون أنّها الحل الوحيد في مواجهة ما يتهددهم من أخطار.
وفيما يدل الموقف الأول على انتباه وحرص لحقوق المسيحيين في الأمن والحرية والعيش الكريم، أمانة لمبادئ حقوق الإنسان العامة وحقوق الجماعات، الا أنه يحمل في طياته خطرين كبيرين:
1- من ناحية أولى قد يُفسّر ذلك خطأ بأنه تحالف بين المسيحيين والغرب في مواجهة دولهم العاجزة عن حمايتهم والجماعات الوطنية الأخرى. وهذا يعيد للأذهان ما سميّ في أواخر القرن التاسع عشر بمسألة الشرق “La Question de l’Orient”، حيث تنافست القوى الغربية على غنائم الأمبراطورية العثمانية المتحللة، بحجة حماية الأقليات الدينية. وكلنا يعلم ما تركت هذه المسألة من آثار سلبية في ذاكرة المنطقة ووجدان أهلنا.
2- ومن ناحية، إن تصنيف مسيحيي المنطقة بالأقليات يضعهم خارج الحياة العامة في مجتمعاتهم، ويظهر تباعدا وفرقة بينهم وبين هوية المجتمع والدول التي يعيشون فيها.
إن مسألة الأقلية ليست فقط تعبيراً عن واقع عدديّ، بل تحمل في طياتها تمايزاً في الهوية لا يعبرّ عن حقيقة الحضور المسيحي الأصيل في المنطقة وارتباطه العضوي بالحضارة العربية وبتاريخ مجتمعاتنا وبتراثنا الحضاري والفكري".
أضاف غزال :"إنّ انكفاء بعض المسيحيين وبحثهم عن ملاذ مرتبط بانتمائهم الطائفي على حساب التزامهم ومشاركتهم في الحياة العامة ضمن دولهم، هو أمر نحذّر من خطورته، بقدر ما يجب علينا تفهمّه. فالخوف لدى الإنسان هو ردة فعل طبيعية بوجه الأخطار وانعدام الأمان. غير أن الخطر الأكبر هو تحوّل هذا الشعور إلى حالة عامة وثابتة تُبنى عليها استراتيجيات المحافظة على الذات والحضور. وهذا ما يعطل أحياناً إمكانية مسيحيي المشرق من الشهادة لإيمانهم، دون أن ننسى بسالة شهدائنا الجدد وقداستهم في العراق ومصر، الذين ذرفت دماؤهم بسبب تمسكهم بإيمانهم. وإنّ خطر الإنعزال أصبح اليوم أكثر تهديداً للحضور المسيحي في ظل انتشار ظاهرة الدول الدينية في المنطقة، بدءًا بدولة إسرائيل التي تبني سياستها العنصريّة على المطالبة بالإعتراف الدولي بيهوديتها، منشئة بذلك نموذجاً عنصريّا خطيراً ينقض مبدأ العيش المشترك وحقوق الإنسان وكرامته. ويناسب الحركة الصهيونية نشر هذا النموذج من الكيانات العنصريّة فيما حولها مما يساعد في تفتيت دول المنطقة ووضعها في حالة صراعات داخلية مستمرة".
ورأى أنّ التطرف لدى بعض الجماعات الإسلامية وسعيها بدورها إلى فرض منظومة سياسية إسلامية على المجتمع بأكمله لا يطمئن المسيحيين، بل يدفع قسماً منهم إلى الوقوع في تجربة الإنعزال الذي يؤدّي إلى الإنسحاب من المجتمع عبر الهجرة أو الإنطواء الكلي في إطار الجماعة الطائفية، وهذا أشدّ الأخطار وأقواها.
لقد أردنا لفت النظر إلى هذا الخطر المتشعب والمتنامي لأنه يضرب أسس العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، ونحن نعلم أن هذا التعايش هو السياق الأمثل لحوار الحياة، وللتفاعل السليم بين أبناء الوطن الواحد، بدل التقوقع أو طلب الحماية من الخارج. ونحن نرى أن الشهادة المسيحية، هي عنوان السينودس الذي عقد من أجل مسيحيي الشرق الأوسط، تقتضي الإندماج في المجتمع وتبنّي قضيته الأساسية حالياً، ألا وهي بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة التي تحترم حرية الأفراد وتحميها وتستوعب التنوع الثقافي والديني في كنفها، كغنى لجميع المواطنين.
إن لمسيحيي لبنان، بالتضامن مع المسلمين الذين يحملون معهم ومثلهم هذه القضية، دورا أساسيا في العمل على تحقيق ذلك، خدمة للبنان ومثالاً لسائر دول المنطقة، بدل أن يتلهى الكثيرون من رجال السياسة عندنا بالصراعات الضيقة والأنانية في وقت يتهدد الخطر وجودنا جميعاً، كمواطنين وجماعات انفتاحيّة.
وأكد غزال على ضرورة :
1- توعية المسيحيين على أهمية إلتزامهم الواعي بالعيش المشترك.
2- جمع أصحاب الشأن والفكر من الطوائف المختلفة للتفكير معاً في هذه المسائل ونشر ما يتوصلون إليه من أسس ومواقف لمواجهة هذه الأخطار، والتأكيد على تنمية ثقافة المسؤوليّة وأصول ممارستها وتحمّلها. وكانت اللجنة قد نظمت ورشة عمل تحضيرية لسينودس الشرق الأوسط جمعت أكثر من خمسين مفكرا مسيحيا ومسلما صاغوا معاً جواباً مشتركاً على الخطوط العريضة، وأرسل إلى اللجنة التحضيرية لأمانة سر الينودس ليشكّل جزءا من نقاط الوثيقة.
واقترح العمل على :
1- تعزيز مستوى التعليم الرسمي والمحافظة على المدارس المختلطة والتشئة الوطنيّة فيها وإطلاق كتاب تاريخ وطني.
2- تعزيز مستوى الخدمات الاجتماعيّة من قبل المؤسسات الكنسية لتطال أوسع شريحة من المواطنين من مختلف الطوائف والمذاهب.
3- دعم القطاع الرسمي والمجتمع المدني كالمؤسسات الصحية والتربوية والأندية والجمعيات.
4- التحرّر من سلوكيات المحاصصة للتوصل إلى اعتماد مبادئ الحق والقانون والكفاءة في الوظائف العامّة.
5- التركيز على عنصر الشباب وتنظيم ورش عمل ومخيمات وأنشطة تؤمّن لهم التواصل والانفتاح والمشاركة مع الآخر.
6- المطالبة بوضع كتاب تعريفي عن مبادئ الأديان وقيمها الروحيّة والإنسانيّة.

السابق
عودة إلى لغة الملايين؟
التالي
فكرة لبنان مركزاً عالمياً لحوار الحضارات