شباب الثورة الذي يعرفنا تماماً

أجمل ما في التحرّك الداعي لإسقاط النظام الطائفي في لبنان تمثّل في وجود شباب لم يتلوّث بعد بلعنة الطائفية. شباب معظمه يخطو في العشرين خطواته الأولى وبعضه لم يبلغها بعد. شباب لم يأتِ محاباة لوالد أو شقيق أو صديق، ليتمكن من رفع علم حزبي طائفي متعدّد الألوان والأشكال، أو رفع صوت بافتداء زعيم يكرّس نفسه ملكاً، ويتحالف مع ملوك آخرين في طوائف وأحزاب أخرى، ليستمرّ كلّ رافع علم أو صوت كما هو دائماً.
شباب يرفع صوتاً واحداً لإسقاط نظام طائفي متعفّن. شباب ربّما لم يدرك بعد كلّ معاني شعاره الكبيرة العائدة فينا إلى نقطة انطلاق وتأسيس. بل ربّما نحن من نظنّ أنّه لم يدرك بعد معاني شعاره، مدّعين استيعابنا له ولتحرّكه الذي يسبقنا بأشواط، ومنكرين على من حمله ونزل إلى الميدان به كلّ هذا القدر من البطولة والمجد الذي هو فيه.
شباب لا نعرفه أبداً… بل ننكر وجوده بيننا، كما أنكرنا كلّ وجود لكلّ من هو لا طائفي طوال تاريخنا الممتد نحو تسعين عاماً خلت وأكثر. وهزئنا منه مراراً وتكراراً وضغطنا عليه بشتّى السبل لنحوّله إلى أبشع ما يمكن أن يتحوّل له؛ إلينا. وحين يتحوّل إلينا فماذا هو فاعل بعد، سوى النوم والقيام، كما ننام ونقوم؛ عبيداً لطائفية رذيلة، ولطبقة تفوقها رذالة!؟
شباب لا نعرفه أبداً، فمن أين لنا أن نعرف كلّ هذا الاختلاف على أمور عديدة والاتفاق على مثل هذه الغاية العظيمة!؟ ومن أين لنا أن نعرفه وما تحركنا يوماً ولا قمنا بتظاهرة وثورة إلاّ تفريغاً لكبت يعترينا، وتصعيداً لشتائم ولعنات ابتلينا بها، حتى عندما نتحرك كلّ عام تحرّكاً يتيماً أو يكاد. شباب لا نعرفه، ولا ندرك بعد أنّنا نحسده حينما نجهّز له الاتهامات بالغباء والشذوذ والتشتت والضياع و«الولدنة» والانسلاخ عن الواقع… وما هو ذلك الواقع سوى وقوعنا نحن في براثن الطائفية والمذهبية والمناطقية التي تمنع علينا أن نرفع صوتاً في وجه من يمنع عنّا العيش الكريم بطرق وأساليب شتّى!؟

هؤلاء هم شباب الثورة الحقيقية الذين أتوا من كلّ ناحية في هذا الوطن الصغير الذي أرادوه كما يشتهون وطناً نهائياً لهم، لا كما يشتهيهم لقمة سائغة كلّ يوم على موائد المذهبية المتربّعة فوق دستوره ومواثيقه تفصيلاً على مقاسات زعماء وحواش وطغمة لا تمتلئ ولا تكتفي ولا تموت من دون أن تورث كلّ ما لديها إلى من يستمرّ بعدها عشرات إضافية من السنين.
هم شباب الثورة الناشئة الذين لم يعيّنوا بعد سبيلاً خالصاً لنضالهم سوى إسقاط النظام الطائفي… وما أجمله من سبيل! هم من كسر حاجز خوف متيبّس صدئ فوق الأعناق، وانطلقوا يذرعون الطرق سعياً، ويزرعون الميادين فرحاً، ويرفعون الصوت إلى عباب السماء نشوة، ويرقصون ويغنون، ولا يكترثون بناقد بعيد يسخر منهم، أو بمتربّص استغلالي يحاول سلبهم ما يملكون.. وهم يملكون الكثير الكثير في قلوبهم وأرواحهم وإراداتهم وقبضاتهم، من دون أن يحتاجوا إلى بوتقة أنفسهم في إطار حزبي ضيّق يقولبهم ويعيد إنتاجهم كزجاجة مكسورة تزرع في سورٍ عالٍ، كبحاً للمنطلقين إلى حرية تنشر ألوانها خلفه… زجاجة قذرة لا تختلف عن مثيلاتها رغم اختلاف اللون والحجم والاستخدام والمصنع وتاريخ الإنتاج.
هم الأبناء والأخوة الصغار الذين رفعنا فيهم روح التحرّر كذباً، فتواطأنا عليهم مع كلّ صفعة لطمنا بها وصمتنا، ومع كلّ سرقة تعرّضنا لها وسكننا، ومع كلّ ترهيب تعايشنا معه، ومع كلّ انتخابات قبضنا ثمنها أو انقدنا إليها بمشيئة ربّ طائفة وحزب، ومع كلّ هجرة لقريب لنا وصديق بحثاً عن حلال – أو حرام حتى – يمنع عنه الفقر والعوز، ومع كلّ وساطة لجأنا إليها، وطابور وقفنا فيه، ومنقوشة زعتر أكلناها فانتفخنا.
تواطأنا عليهم مع كلّ نفس تنفسناه، وكلمة قلناها، وموقف سلكناه، وقرار اتخذناه، ودعاء لجأنا إليه.
هم الذين انعتقوا ولن يعودوا أبداً إلى قيود أورثناها لهم وأضعنا مفاتيحها. هم شباب الثورة الذي يثور فنثور معه، ويمشي فنمشي خلفه، ويهتف فنهتف بعده، ويفتح أمامنا الطريق للثورة على أنفسنا، قبل أي ثورة أخرى.

السابق
مسيرة «إسقاط النظام الطائفي» تجول في صيدا رفضاً للظلم والإذلال
التالي
ديمقراطية الرؤساء