ثقافتا النظام الطائفي: “عبودية” و”جبن” أمام فكرتين

… لا بد من استمرار التفكير "اليائس" في شعار "اسقاط النظام الطائفي" الذي بدأناه امس، في محاولة لفتح كوّة تفاؤل في جداره السميك (•)
اقصى المجازفة في التفاؤل هو السؤال التالي: هل سيتمكن الجيل الجديد المسيّس بين الشباب اللبناني من القيام أو من التقدّم غير المسبوق في القيام بمهمتين – معضلتين مزمنتين في الكيان اللبناني منذ تأسيسه عام 1920، ومتفاقمتين في نصف القرن المنصرم… هما:
1 – تحرير المسيحيين، او الادق الثقافة السياسية عند المسيحيين، من عبوديتها لفكرة ان الطائفية او النظام الطائفي هو مجال حمايتها من الذوبان في الأكثرية المحيطة والآن من الأكثرية المسلمة الداخلية؟
2 – تحرير المسلمين، او الادق الثقافة السياسية عند المسلمين السنّة والشيعة، من الجبن المترسّخ فيها تجاه فكرة ان تجاوز شعار "إلغاء الطائفية السياسية" الى نظام علماني يهدد بشكل خطر، مقومات اساسية في دينهم نفسه اي في الاسلام نفسه.
صحيح ان القابلية التكوينية اعمق في الدين المسيحي لدفعه نحو الانحصار في "المساحة الخاصة" وابعاده عن المجال العام تبعاً لخلاصات التجربة الاوروبية والاميركية، لكن التجارب في العالم الاسلامي ليست مغلقة امام هذا الاتجاه قياساً بما حصل في مسائل اساسية من التنظيم الاجتماعي العلماني في تونس وتركيا، فضلاً عن مستويات عديدة في هذا الاتجاه – ولو نسبياً – حققتها اجراءات ليبرالية في دول لم تكن تشهد قيام "الدولة الدينية" المعاصرة.
في تحديد هذه العبودية (المسيحية اللبنانية) والجبن (المسلم) نكون قد انتقلنا من معضلة القوة غير المسبوقة للنظام السياسي الطائفي اللبناني الى معضلة الثقافة الاجتماعية… حتى على مستوى النخب على جهتي المجتمع اللبناني. فالنخب المسيحية هي جزء اساسي من ظاهرة الخوف من الخروج من النظام الطائفي لصالح مصير… اقله مجهول واكثره كوابيس القضاء "السياسي" على خصوصية او ندية او مساواة المسيحيين بالمسلمين. والنخب المسلمة هي جزء اساسي، بل متحمس تقليدياً في الادبيات الاصلاحية للسجال السياسي اللبناني الى "إلغاء الطائفية السياسية" كحل متوهَّم لأزمة النظام الطائفي…
الفراغ المستقبلي الذي نأمل ان يتمكن من تعبئته الجيل الجديد المسيّس من الشباب اللبناني، حامل شعار "اسقاط النظام الطائفي"، يكمن في هاتين النقطتين تحديداً:
• تحرير جاد، وليس افتراضياً، للثقافة السياسية المسيحية، من عبوديتها لفكرة الحماية التي لا بديل لها التي تقدمها الطائفية، او النظام الطائفي، للوجود والمصالح المسيحية. بهذا المعنى فالسؤال هو عن اية افكار عملية وخلاّقة سيأتي بها الجيل الجديد في مجال هذا التحرير؟
•تحرير جاد، سياسي وثقافي، للنخب المسلمة اللبنانية من هلعها، الذي يتحوّل الى رُهاب فجبن، حيال ما تعتبره مساساً خطراً ببعض مقومات "التنظيم" الاجتماعي الاسلامي او ما سماه النقاش الهام الذي دار بين الحقوقيين والسياسيين قبل وضع الدستور العراقي الجديد بعد سقوط صدام حسين "ثوابت احكام الاسلام" كمخرج عملي – وليس وسطياً – بين تعبير "احكام الاسلام" الصارم وبين "ثوابت احكام الاسلام" الاقل صرامة نحو دولة غير دينية… في هذا المجال – وعلى اهمية هذا النقاش العراقي الدستوري – ينبغي التذكير بأنه كان يتم في النتيجة في سياق قيام نوع من "نظام طائفي" في العراق عبر صيغة فدرالية بسبب البعد القومي الذي يؤمنه وجود الأكراد… ويجعله بالتالي مختلفاً عن النظام الطائفي اللبناني في العديد من مستوياته.
على هذا الصعيد… نحتاج – عبر مبادرات الجيل الجديد – الى نمط نقاشي مختلف إذا كان الهدف النظري هو "الخروج" من "النظام الطائفي" للمرة الاولى… لقد ثبت، ان العمليات "الاصلاحية" بما فيها المحاولة الكبرى الشهابية قد تحوّلت الى عملية تعزيز لهذا النظام الطائفي، فيما ادى "الطائف" – رغم تأثره بسجل كبير من الادبيات الاصلاحية – الى جعل النظام الطائفي اقوى من اي وقت سابق والدولة اضعف من اي وقت سابق قبل عام 2005 وبعد عام 2005… والآن.
هل يستطيع – اذن – الجيل الشاب اللبناني ان يحقق ما لم نستطع تحقيقه: تقديم برنامج تغيير للنظام لا يتذاكى على الثقافة السياسية المسيحية عبر شعار "إلغاء الطائفية السياسية" وانما يقدم تدريجياً وبعمل وطني (نعم وطني) ودؤوب ومتعدد المنابر ثقافة "طمأنة" عميقة وخلاّقة ومقنعة للمسيحيين في خيار إلغاء الطائفية (كيف؟ لا جواب عليه حتى الآن) ويوجد صيغاً مسؤولة وخلاّقة لدفع النخب المسلمة نحو مواقف "شجاعة" حيال المتطلبات التجديدية في الفكر الديني التي تستلزمها الحداثة، بمعنييها الحداثي وما بعد الحداثي كما لفت نظري إليها صديق أكاديمي لبناني معروف في رسالة على البريد الالكتروني.

•••

الخلاصة الممكنة من هذين المقالين كتفكير بصوت عال احتراماً للمتظاهرين تحت شعار "اسقاط النظام الطائفي" ولكن ليس اقتناعاً بجدوى تحركهم هي:
بعض فراغات التحرّك على المدى القصير:
1 – العجز عن "شخصنة" رفض النظام الطائفي… بسبب تعدد الرموز الاساسية (ستة الى سبعة) من جهة، وبسبب القوة الردعية الكبيرة للنظام الطائفي بكل اجنحته من جهة ثانية؟؟
2 – استمرار عدم شعور "المسلم اللبناني" بكلفة "اسقاط النظام" عليه التي يجب ان يدفعها واستمرار عدم اطمئنان "المسيحي اللبناني" الى مدى وضوح المشروع وغياب المخاطر على وجوده ومصالحه مقابل تخليه عن حماية النظام الطائفي.
3 – عدم تجسّد كل ذلك في برنامج سياسي واضح.
اما الفراغات على المدى الأبعد:
1 – غياب – تاريخي – لجهد فكري يحدد من هي القوى صاحبة المصلحة في التغيير الشامل والأهم من هي القوى القادرة على هذا التغيير او التحرك نحوه؟
2 – عدم وجود افكار اصلاحية كبرى جديدة في هذا السياق باستثناء ربما بعض افكار تعديل قانون الاحوال الشخصية.
… قد تكون هذه المهمات ايضاً بعيدة المنال حتى عن الجيل الجديد… بانتظار اجيال لاحقة! وأرجو ان اكون مخطئاً. فهذا النظام الطائفي قوي جداً جداً.

السابق
إنقاذ «جل البحر» بنقله؟
التالي
في بحر هائج… ولا تجيد السباحة؟!