تهريب الأسلحة والمقاتلين يمارس أمام مرأى الدولـة والحدود المشتركة مكشوفة للسوريي

حملت بيانات مجلس الأمن الدولي في أكثر من مناسبة هواجس تعبر عن «قلقه العميق بشأن البلاغات المتكررة عن عمليات تهريب للأسلحة وإعادة تسليح للمقاتلين في لبنان». وتحدثت تقارير عديدة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والبعثات الدولية التي زارت لبنان، لتقويم وضع الحدود، عن استمرار تدفق السلاح عبر الحدود السورية الى لبنان من البقاع.

إلا ان السلطة السورية كانت ترفض أي إشارة لضبط حدودها مع لبنان وتحديدا بعد حرب يوليو (تموز) وصدور القرار 1701. وكانت الأطراف الموالية لها في لبنان تساندها في رفضها هذا، وتتهم من يطالب بمراقبة الحدود بالعمالة والعمل على التفرقة بين الشعبين اللبناني والسوري.

لكن سورية قررت بعد جملة حوادث أن تطبق القرار 1701 ولكن على الحدود اللبنانية الشمالية حيث حشدت جيشها على رغم وجود حرس الحدود السوري او «الهجانة» عند كل نقاط العبور بين البلدين، رسمية كانت أم طبيعية، وذلك تحت عنوان حماية نفسها من الارهاب الذي يهددها. فانقلبت الآية، ونسي المجتمع الدولي ما ردده عن الحاجة الى ضبط الحدود في لبنان خلال السنتين الماضيتين، وعن استخدام المعابر غير القانونية «ذات العدد الهائل» لتهريب الاسلحة والمسلحين من سورية الى لبنان. وتدفق الاسلحة الى «حزب الله» ليس سراً، ذلك ان قادة الحزب يؤكدون أنهم تمكنوا من تعويض ما فقدوه من أسلحة في حرب يوليو (تموز) مع إسرائيل، بل وحصلوا على المزيد من الأسلحة. والمنطق يقضي بأن الممر الأكثر أمانا والأسلم لعبور الأسلحة الجديدة هو الحدود السورية، وتحديدا في المناطق التي يسيطر عليها الحزب في مناطق البقاع. والمفارقة أن الحدود اللبنانية مكشوفة للسوريين وليس العكس، إذ أن بعض المصادر تشير الى وجود حوالي ثمانية آلاف جندي من الجيش اللبناني فقط على امتداد هذه الحدود التي يبلغ طولها 359 كيلومترا (198 ميلا). وهؤلاء الجنود يفتقرون إلى المعدات والتدريب والتسليح، كما يفترض ان تكون المواصفات المطلوبة لضبط أمن الحدود التي تمكنهم من إحباط عمليات تهريب الأسلحة، علاوة على أن المراقبين الدوليين اعتبروا في أكثر من موقف أن الجيش اللبناني يفتقر إلى الإرادة اللازمة لمنع عمليات تهريب الأسلحة إلى حزب الله. التجارب التي تعرض لها الجيش في المرحلة السابقة تدل على ان أي قوة أمنية من الجانب اللبناني، تكلف بالعمل لضبط الحدود، ستجد نفسها مضطرة إلى التعامل ليس مع المهربين فقط، وانما مع مقاتلي حزب الله الذين تعج بهم معسكرات التدريب التابعة للحزب في المنطقة. كما ان مثل هذه القوة ستصطدم بالقواعد العسكرية للمنظمات الفلسطينية التي تدين بالولاء لسورية مثل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة» و«فتح الانتفاضة» وهي متمركزة في قواعد تتصل بالأراضي السورية بواسطة دروب ترابية غير محروسة تستخدم عادة في تهريب الأسلحة والمقاتلين إلى لبنان. وتشير تقارير الامم المتحدة الى ان ما يفاقم من حجم المشكلة أن الحدود الطويلة بين سورية ولبنان لم يتم أبداً ترسيمها بشكل رسمي. ولا تزال حتى الآن تعتمد على الخرائط التي رسمها جغرافيون عسكريون فرنسيون عام 1920. ويذكر أن بعض الدراسات تشير الى ان سورية استولت على نسبة من الأراضي اللبنانية الواقعة على امتداد الحدود بين البلدين، تقدر بـ 4.5 في المائة من المساحة الإجمالية للبنان. كما أن النزاعات على الحدود بين لبنان وسورية كثيراً ما تؤدي إلى نشوب معارك بالسلاح بين سكان القرى الواقعة على الحدود، خصوصاً عندما يختلف المهربون من الجهتين او يمنع المزارعون اللبنانيون من الوصول الى اراضيهم الواقعة تحت النفوذ السوري. ولا يمكن تجاهل الحدود المفتوحة في كثير من المناطق. وهي تبدأ من مزارع شبعا عند اطراف جبل الشيخ في الجنوب الشرقي للبنان مرورا بكل السلسلة الشرقية وسهول بلدتي القاع والهرمل في الشمال الشرقي، وقرى وادي خالد وبلدات سهل عكار عند النهر الكبير الجنوبي في اقصى الشمال اللبناني.

هذا الواقع يعكس الاختلال الكبير على جانبي الحدود. ويّولد هواجس لدى المراقبين جراء الحديث السوري المتكرر عن مجموعات تكفيرية من جنسيات لبنانية وسورية وخليجية تتخذ لبنان مقراً لها، وتتحرك نحو سورية لاستهداف أمنها بدعم من جهات عربية ودولية. وردا على ما يتردد عن ان الاستخبارات السورية تملك معلومات موثقة عن تحركات لمجموعات أصولية متشددة منتشرة في مناطق بقاعية مختلفة، ولا سيما في عدد من القرى القريبة من الحدود مع سورية في البقاعين الأوسط والغربي، يقول خبير متابع لملف الحدود لـ«الشرق الاوسط»: «بالطبع هي ارسلتهم او سهلت دخولهم عندما كانت هنا. وتعرف اين هم. وبالتالي فإن ما تروجه عن وجودهم فيه نسبة من الحقيقة. ولكن ليس كل الحقيقة».

كل الحقيقة يصعب الحصول عليها. إلا ان الجولة الميدانية على قرى وبلدات حدودية بقاعية تعطي صورة واضحة عن الاختلال في التوازن المثير للقلق، لا سيما في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله حيث لا يمكن الوصول الى المعلومات إلا بصعوبة بالغة. المحطة الاولى من الجولة كانت في منطقة الهرمل. وقد بينت مدى الصعوبة التي تواجه الاعلام للعمل من دون مراقبة او توجيه. هنا لا وجود للقوة المشتركة كما هي عند الحدود الشمالية. هنا لا أمل بتنفيذ القرار 1701. والحجة التي تستخدمها سورية لتبرير وجود جيشها قبالة الحدود الشمالية لا تنفع على الحدود البقاعية. والاسباب كثيرة ومتنوعة حسب تنوع خصوصية هذه المنطقة الحدودية وتقاطع المصالح فيها.

ترسيم الحدود بين لبنان وسورية

* اتفق لبنان وسورية على استئناف العمل لترسيم الحدود بين بلديهما بصورة رسمية خلال زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان نظيره السوري بشار الاسد في 12/8/2008. وجاء في البيان الصادر عن اللقاء انه «اتفق الرئيسان على استئناف أعمال اللجنة المشتركة لتحديد وترسيم الحدود اللبنانية ـ السورية وفق آلية وسلم أولويات يتفق عليهما بين الجانبين وبما يخدم الغاية المرجوة من قبلهما على أن يصار إلى اتخاذ الإجراءات الإدارية والتقنية اللازمة للمباشرة بذلك».

لكن السلطة السورية ربطت دائما هذه العملية بتحرير مزارع شبعا بعد انسحاب إسرائيل منها. وكانت الأمم المتحدة قد طالبت سورية بترسيم الحدود وخاصة في المناطق التي لا يكون خط الحدود فيها مؤكدا.

لكن مراجعة ملف الحدود اللبنانية السورية تظهر مدى صعوبة الترسيم. فالمواقف السورية غداة خروج جيشها من لبنان كانت تعتبر ان مطلب الترسيم هو مطلب ‏إسرائيلي، كما صرح الاسد في احدى المناسبات، وأضاف: «من زاوية أن هذا ‏المطلب يتركز وظيفياً على الفصم التام النهائي بين طرفيْ المسار السوري ـ اللبناني الذي انبنت الاستراتيجية ‏السورية عليه». واعتبر في مناسبة أخرى ان «المشكلة ليست بين سورية ولبنان بل بين لبنان واسرائيل، حيث ان هناك احتلالا لاراض لبنانية. وعندما تحل هذه المشكلة نحن جاهزون لترسيم الحدود مع لبنان». حلفاء سورية في لبنان كانوا قد اعلنوا الاستنفار على مسألة ترسيم الحدود. وفي هذا الاطار يقول العميد المتقاعد أمين حطيط في محاضرة له: «ترسيم الحدود مع سورية مسار فتنة وترسيخ شقاق ونزاع..‏ إنه قرار لا فعالية قانونية له سوى أنه يعقد العلاقات اللبنانية السورية حتى يفسح المجال لتدخل لاحق يحضر له فيكون قراراً تمهيدياً لقرارات ضغط لاحقة ضد سورية».‏ وصعوبة هذه العملية أشار اليها وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، عندما قال خلال زيارته مصر قبل فترة وجيزة عن ترسيم الحدود بين سورية ولبنان: «في الحقيقة لم تكن هناك حدود بين البلدين. ويتعين رسمها ونحن على استعداد لمساعدتهما إذا طلبا ذلك». ويحكي أحد كبار السن في بلدة مجدل عنجر عن تداخل البلدات الحدودية بين البلدين. فقد عايشها عندما كان لا يزال فتى وعمل مع فرقة فرنسية كانت تهتم بالبلدات اللبنانية عند الحدود وتستخدم خرائط وصكوكا ومستندات ومراسيم. قال «الفرقة وضعت فواصل حديدية عملاقة منذ عشرينات القرن الماضي، أيام الانتداب، لتحديد الخط الفاصل بين البلدين. لكن السوريين انتزعوا تلك الفواصل وبنو ساتراً على ذوقهم».

وكان أحد أهالي بلدة عرسال البقاعية قد أقام دعوى لاسترجاع أرضه الحدودية من نافذين سوريين وضعوا اليد عليها وخربوها لأنه رفض دفع خوات تحت حجة ان الارض هي داخل الحدود السورية، وذلك في ثمانينات القرن الماضي. لم يحفل الرجل السبعيني بالتهديدات التي وجهت اليه ولا بتخريب الارض واقتلاع الاشجار وانما وطوال ثلاثين عاما بقي يتقدم بالشكاوى. وقضيته تستمر أمام محكمة الجزاء في بعلبك. وتتوفر بعض الخرائط التي تبين الخط الفاصل بين الدولتين، وتدل أن السوريين يستولون على مساحات كبيرة من الاراضي على طول الحدود.

ويؤكد الخبراء انه ليس صحيحاً أن لا مسح لعدد المنافذ بين لبنان وسورية. فالخرائط والصكوك المتوفرة في وزارة الدفاع التي حصلت عليها بعض البلديات البقاعية، تحدد «جغرافياً» البداية والنهاية، وهناك مراسيم أصدرتها فرنسا في عشرينات القرن الماضي تحدد الخط الفاصل بين لبنان وسورية في عدد كبير من المناطق. ففي عرسال مثلا تم تحديد «مقلب المياه»، أي الخط المار في أعلى قمم الجبال، بين بلدة قبو عند الجهة الشمالية الغربية من القاع، و«بئر جباب» عند الجهة الشمالية الشرقية في بعلبك.

ويقول أحد أهالي عرسال إن الجانب السوري لم يبال بالخرائط والمستندات ولا بالصكوك والمراسيم، وبنى ساتراً في قلب عرسال بعمق يتراوح بين ستة كيلومترات وثمانية كيلومترات، على طول خمسين كيلومتراً.

بلدية عرسال تستند في اتهامها الجانب السوري بقضم ارضها، الى معطيات أجهزة «جي بي إس» المرتبطة بالأقمار الصناعية التي تحدد بالضبط امتداد الحدود والمساحات المستولى عليها. الهرمل: معلومات مشفرة

* تقع الهرمل في شمال البقاع في سفح الجبل الغربي للبنان، تحاذي أرضها شرقا (رأس بعلبك). ولها أراض متداخلة مع الأراضي السورية شمالا ترتفع عن سطح البحر 750 مترا وتبعد عن بيروت 143 كيلومترا وعن زحلة 93 كلم وعن بعلبك 60 كلم.

المواقع العسكرية السورية هنا لم تشهد منذ ما بعد حرب يوليو (تموز) 2006 وحرب نهر البارد تبدلات أو استحداثات عسكرية جديدة تُذكر، وفق المشاهدات. كذلك لم تتلقّ غرف عمليات الجيش تقارير من مخبرين أو فرق الاستطلاع الثابتة والمتحركة معلومات تتحدث عن انتشار عسكري سوري «غير اعتيادي» على طول خط الحدود اللبنانية الشرقية، من حدود المنطقة الواقعة ما بين بلدة القاع وجوسية العمار السورية، وصولاً إلى المرتفعات الجردية شرقاً وغرباً. وكما هي الحال على امتداد المناطق الحدودية تغيب الاجراءات الجدية والروادع الرسمية لقطع دابر عمليات التهريب. ولا يزال المهربون يتمتعون بحرية الحركة كما تبين الزيارات الميدانية.

تهريب المواد الغذائية والحاجات المعيشية يضر باقتصاد تلك المناطق النائية من جهة، ويسمح للأهالي بالحصول على السلع السورية بأسعار رخيصة من جهة ثانية، معروفة ايجابياته وسلبياته. وعمليات التهريب هذه تؤكدها الادارات الرسمية اللبنانية من خلال البيانات عن حجم الاستهلاك المحلي وحجم الاستيراد. وتستفيد من استمرار العملية مجموعة اطراف. ففي تهريب المازوت على سبيل المثال الاطراف المستفيدة هي:

ـ الجهات السورية الداعمة والراعية لعملية التهريب والتي تنال حصة الاسد حيث ان عمولتها عن كل صفيحة مازوت لقاء غض الطرف والتسهيلات المقدمة تقدر بسبعين ليرة سورية، اي ما يساوي 2100 ليرة لبنانية.

ـ اصحاب الصهاريج السورية الذين يتقاضون بدل أتعاب نقل عن الصفيحة ما يقارب الدولار اي 1500 ليرة لبنانية. ـ اصحاب الصهاريج اللبنانية، فاضافة الى الاتاوات التي تدفع للاجهزة الغاضة الطرف تبلغ حصتهم اكثر من دولار ونصف الدولار عن الصفيحة الواحدة اي ما معدله 2150 ليرة لبنانية.

ـ اصحاب محطات المحروقات اللبنانية حيث تبلغ عمولتهم عن كل صفيحة الف وأربعمائة وخمسين ليرة لبنانية (حوالي دولار) اي ما يعادل ثلاثة اضعاف عمولتهم التي يتقاضونها من الدولة اللبنانية.

ـ المواطن والمزارع اللبناني له مصلحة في الأمر لأنه يوفر على نفسه ستة آلاف ليرة لبنانية.

لكن المشكلة الحقيقية تكمن في عمليات تهريب الأسلحة وانتقال المقاتلين بين البلدين. هذا ما يشير اليه أصحاب الجرأة في المنطقة، وهم قلة، يكتفون بالاشارة من دون تفصيل. ذلك ان كل كلمة لها حسابها في منطقة الهرمل الحدودية. المعلومات تصل «مشفرة» أشبه بالألغاز او الكلمات المتقاطعة. التحفظ عن ذكر الاسماء طبيعي، لا سيما عندما نتعرف الى الواقع الذي يعيش ضمنه الاهالي. الصور ممنوعة. وسرقتها قد تؤدي الى احراج غير محمود النتائج. في الشكل الظاهر التهريب يقتصر على تبادل السلع والمازوت والحطب. يقول مرافقي ان «مفاتيح التهريب من الجهة اللبنانية يتولاها مدعومون من الحزب تحت راية المصلحة. وهؤلاء كانوا في ما مضى مع فتح ومن ثم مع الصاعقة وبعدها مع أمل واليوم مع الحزب. لا قضية لهم إلا جيبهم». الناس لا إنتاج لديها ولا دخل ثابت. هنا لا حركة توظيف في ادارات الدولة ولا في الجيش بنسب كبيرة. لذا تنسج العلاقة سريعا بين من يتطوع ليصبح مخبرا للحزب او للهجانة. يعرفونهم بالاسم في القرى. الرقابة الوحيدة من الدولة كما يعرفها الاهالي تتم على متن طائرة هليكوبتر تابعة للجيش اللبناني تحلق فوق منطقة القصر وتقوم بالاستطلاع بشكل دوري. لكنها لم تضبط شيئا حتى تاريخه. ويشير مرافقي الى ان «تهريب المخدرات الى سورية يتم بصعوبة، اما تهريب البشر فلديه سوق ناشط».

السابق
مصادر سياسية بارزة: قللت من أهمية الاحتدام السياسي المتصاعد عشية احياء ذكرى 14
التالي
دولة بلا مقاومة أم مقاومة بلا دولة؟