«الشعب يريد..» ولكنّ الحق يفترض!

إنّها الجولة الثانية من السباق. بعض المقامرين راهنوا على الخسارة، افترضوا أنّ التجهيزات غير كافية، وعوّلوا على صدامٍ قد يؤخر العربة بضعة أميال. في المحصلة، كسب اللاطائفيون الجولة، ولكنّهم لم يفوزوا بعد، والانتصار حليف المتأني في خياراته. الآلاف قرروا الخروج عن الاصطفاف الطائفيّ، ليقدموا نموذجاً غاب طويلاً عن الساحة اللبنانيّة. خلعوا لباسهم الحزبيّ على أعتاب محلة الدورة، وبدأوا مسيرتهم للإضاءة على منشآت النظام الفاسدة. ولانّ لكلّ سباقٍ تعرجاته، ولكل حلبة استراتيجيّتها، فإنّ أضعف الإيمان التخطيط قبل الإقدام على الخطوة التالية. سيخوض منافس قديمٍ جديد غمار المرحلة المقبلة واسمها: «الشارع»، حاملاً شعاراً مشابهاً: «الشعب يريد..». هنا تبدأ رحلة البحث عن حلباتٍ أكثر ملاءمة.
حسم فريق الزبائنيّة أموراً لصالحه: وظائف الفئة الأولى، النفط، شركات الاتصالات، النافعة، وسط البلد ومخيمات حملت أرقام 8 و14، الإعلام (أغلبيته)، المناصب الروحيّة، واللعب على الغرائز الطائفيّة لكسب الجماهير. هذا بالضبط ما على اللاطائفيين الابتعاد عنه بالتوجه نحو: قانون الانتخاب، قانون الأحوال الشخصيّة، السلك الدبلوماسي، توحيد النقابات العماليّة، الضمان الاجتماعي، وزارات الصحة والتربية، كتاب التاريخ، والأحياء الشعبيّة. هذا في اختيار المضمار، أمّا في اختيار العربة، فعليها ألا تكرر النموذجين السابقين (مسيرة تتوقف عند النشيد الوطني)، وألا تكون فولاذيّة تفرض إيقاع سرعتها دون استشارة من خلفها، فتكون ما بين بين. الخطوة التالية عليها تحصيل مكسب وإعادة حقّ عام إلى أصحابه، ولو كان ضئيلاً. هذا الحسم هو في توجيه ضربة للنظام الطائفي وفي الأمكنة التي توجعه أكثر: فضح أرقام الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، توثيق سرقة المال العام واستغلال المناصب، التوجه إلى الأرياف وحشد المناصرين. ومن ثمّ تبدأ الوتيرة بالتصاعد في الدعوة لإضراباتٍ قطاعيّة: القضاء، الأطباء، التعليم، سائقي التاكسي، الموانئ والمطار.
ولأنّ لكل عربة سائقها، فعليه التمتع بالقدرة لقيادتها، وهو هنا: من شارك في التظاهرات وفي الخيم، وهاجر من أرضه مرغماً. عائلات من سقطوا في الحرب الأهليّة. الحزبيون الذين لاقوا في أحزابهم ملاذاً لا قناعة. يفترض بالسائق أن يعرف قواعد اللعبة والدروب المختصرة، منها بأن مقولة «لا صوت يعلو على صوت المعركة» ساقطة، والديموقراطيّة المنشودة تفترض سماع الأصوات كلها. ففي يوم المرأة العالمي، على المتظاهرين ألا يغفلوا حقّ المرأة اللبنانيّة في اعطاء جنسيتها لأولادها، بل أن يستثمروا في دعم هذا المطلب الذي من شأنه المساهمة في وصول السفينة إلى ميناء المساواة. وبالأمس، أغفل المشاركون في المسيرة الأولى استثمار تواجدهم تحت جسر العدليّة للهتاف لحقوق مئاتٍ يقبعون تحت الأرض بظروفٍ غير إنسانيّة، وعلى بعد أمتارٍ منهم، في واحد من أسوأ السجون اللبنانيّة.
 

أمّا القطبة المخفيّة الثانية فهي في الابتعاد عن الأصنام: صنميّة يوم الأحد للتظاهر، أو صنميّة ربط الأحداث بالمحيط العربي (مع أنّها كانت من الشرارات الأساسيّة المحفزة)، وصنميّة الإعلام الإلكتروني وتكبير دوره، وأخيراً صنميّة الشعار: «الشعب يريد..». حتى الآن الشعب لا يريد إسقاط النظام، بل انّ جزءًا كبيراً منه يخشى هذا السقوط لأسبابٍ نفسية واجتماعية نشأ عليها، أم لمنافع خاصة. وهنا يفترض بالمعتصمين بحبل الدولة المدنيّة أن يرفعوا شعار: «الحق يفترض..». فالحق يفترض أن يكون للأرمني أو العلوي أو الأنجيلي وغيرهم الحق في منصب رئاسة الجمهوريّة أو الوزراء أو النواب، فكيف يعقل أن ينتمي أحد لدولة تمنع عليه الحق الأساسي في الوصول إلى إدارة شؤونها؟ والحق يفترض أن يتزوّج الكل وينجب وينقل الإرث لأولاده بالتساوي، فكما يحق للمؤمن لأيّ دينٍ انتمى أن يسجّل أحواله الشخصيّة في محاكم مذهبه، يحق لمن يؤمن بأنّ «ما لله لله، وما لقيصر لقيصر» أن يسجّل أحواله الشخصيّة عند «القيصر». والحق يفترض أن يلجأ المعدم إلى مستشفيات الدولة لا أن يموت على أبوابٍ ترفض إدخاله لغياب العملة الخضراء، والحق يفترض ضمان شيخوخة للعمّال لا بدل أتعابٍ لنوابٍ عيّن بعضهم في العام 1991 يكلفون دافع الضرائب خمسين مليار ليرة سنوياً. والأهم بأنّ الحق يفترض المحاسبة والمساءلة.
وممّا لا يتضح للبعض فإنّ تنافس اللاطائفيين مع الآذاريين (الفريقين) هو كمنافسة «الفيفا» لفرق منتخبات كرة القدم، أي إنّ الطرف الأوّل هو العصب الذي يجمع الطرف الثاني الذي استأثر ونسي مكانته فنكر ما يطالب به مشجعيه. لهذا يغيب الداعم الرسمي، ومن هذا المنطلق يفترض أن يحذر الحراك اللبنانيّ من عاملين: إلصاق التهمة السياسيّة به، أو إلصاق التهمة الإيديولوجيّة. والمطلوب في مواجهة ذلك ما يلي: ألا يجرّح المنتمون للإيديولوجيات بالمواطن الذي أراد أن يبدأ بالتغيير، وأن تُحترم خصوصياته والابتعاد عن محاولة سرقة مجهوده أو تجنيده. يقابل هذا الالتزام ألا يجرّح المواطن المستقل في المنتمين للأيديولوجيات الحزبيّة، ولا لتاريخه النضالي، ذلك أنّ النظام الطائفيّ لم يرحم الاثنين. فالخيم المتناثرة، وجسر العدليّة وشركة الكهرباء ستفعل فعلها في النقد الذاتي لدى الطرفين وستبيّن تأثيرها في القادم من الأيام.
علينا الانتباه إلى قواعد اللعبة والممنوعات فيها: المحكمة والسلاح. فالجواب بذكاء يفترض: إنّ الانقسام الطائفيّ المتواجد حالياً بسبب البندين أعلاه هو نتيجة هذا النظام، ولو قدّر أن تنبثق دولة مدنيّة (قوية قادرة عادلة كما يريدها فريق الثامن، وقانون ومؤسسات كما يريدها فريق الرابع عشر) فإنّ من شأنها أن تناقش هذين البندين حسب الاعتبار المنطقي الوحيد: مصلحة الشعب اللبناني لا زعامات الطوائف.
هي جولة فتحت العيون على منافسٍ نقاط قوته هي في المطالبة برفع الظلم، وفي الحق العام في مكافحة الفساد، ورفض الإقطاع، والأهم في طلب المساواة لمن هو مع الدولة المدنيّة ومن هو عليها.

السابق
تغيير تكتيكي في مهام الفرنسيين أم بداية إخراج مشرف من الجنوب؟
التالي
“شباب صور” يطردون الفساد بالتحركات