الرهان على الفتنة

في نبرة الفريق الحريري – وخصوصاً مسيحيّيه – شيء من النشوة، أو الزهو هذه الأيام. قد يجد المدقّق صعوبة في التمييز بينه وبين ما قد يظنه سلوك مكابرة، أو عضّاً على الجراح.
فلدى هؤلاء أولاً إحساس حيال حلفائهم بأنهم هم كانوا على صواب، فيما أصحاب القرار في فريقهم كانوا على خطأ. كأنهم ببسماتهم الراضية يقولون لسعد الدين الحريري: أما قلنا لك منذ البداية إن العلاقة مع «حزب السلاح» مستحيلة؟ أما قلنا لك طويلاً، إن علينا اعتماد المواجهة الجبهية منذ البداية؟
ثم لدى هؤلاء ثانياً اغتباط حقيقي بأنهم ربحوا موقع المعارضة، كأنهم مفطورون على حرفتها، وسلوكياتها. فكيف إذا كانوا ممن لم يتذوّقوا السلطة أصلاً، حتى حين شغلها الحلفاء والأصدقاء؟ وكيف إذا كانوا من رعيل «اليسار المكلوم» وممّن لا يستسيغون إلا الرفض والنقد والاعتراض والثورة…؟ يحدوهم حبور كبير، وهم يشاهدون خصومهم في السلطة العتيدة، يدشّنونها، حتى قبل أن تبدأ، بأن يقدّموا لهم الخدمات القديمة المتجدّدة مجاناً: فحين يقرأون أن إمام بلدة جنوبية اعتُقل في دمشق، كأنّ صندوقة اقتراع مليئة بأصوات مناصريهم قد فُرزت للتو، ولو قبل زمنٍ من الاستحقاق… وحين يُكتب أن مديرية الاستخبارات عادت لتعتقل شاباً وتضربه وتعذبه، لمجرد انتمائه السياسي، ولا يصدر توضيح، يحسُّون بدنوّ نصرهم… وحين يُحكى عن اختفاء أربعة شبان في قلب بيروت، لمجرد أنهم وزعوا بياناً، ولا تتبيّن رواية أخرى، يدركون أن عصرهم الذهبي في المعارضة عائد… بل هو عاد بأحلامه وحلو الأيام المرّة…
ثم لدى هؤلاء، فضلاً عن عوامل الاحتفالية الذاتية، شيء من رهانات الموضوع. أوّلها رهان على قرار ظني دولي آت حتماً، بحسب رأيهم والمعطيات. يؤكدون أن القرار سيقفل الملف القانوني لقضية «شهود الزور». ذلك أنه لن يستند في أي من حيثياته وجزئياته والوقائع إلى الإفادات المشكوك في صحتها أو المشكو منها، بل إلى أدلة كاملة أخرى، من مصادر قاطعة ومغايرة. هكذا، يقولون، يسدل الستار على ملف «شهود الزور» قانوناً. فلا يبقى غير قصة «إفادات كاذبة»، على المتضررين منها أن يتابعوها عبر ادّعاءات قضائية شخصية لا غير. بعد القرار الظني، يراهنون ويتحدّون. لن تسمح الوقائع المعلنة باستذكار تلك الإفادات، بل ستكون كل العيون والأذهان في مكان آخر… حيث الجريمة والمجرم.
وفي سياق كلام هؤلاء، يبرز رهان آخر لافت: في هذا الوقت، ماذا يجري في سوريا؟ وكيف سيتكيّف «نظام الدولة» هناك لاجتياز زمن الثورات الزهرية في محيطه والمنطقة؟ يقولون ببسمة، إن دمشق مقبلة على ربيع طوعي هذه المرة. وهو ربيع مزدوج في الداخل والخارج. ففي داخلها ستكرّ سبحة الخطوات التي يصفونها بالاستيعابية: العفو السياسي عن الجرائم، الذي أعلن أمس، ليس غير الباكورة. بعده سيأتي المؤتمر القطري للحزب، ومفاجآته الإصلاحية، والسؤال التحدّي: كم دورة رئاسية سيحتمل الدستور الجديد؟
أما في الخارج، فيتحدث هؤلاء عن تأقلم سوري غير منظور مع الأجندات الدولية: ذهاب كامن إلى المفاوضات، وسط كلام إسرائيلي صريح عنها وعن خطوات أنجزت، وفتح الأبواب السورية العسكرية المغلقة، وحتى السرية منها، أمام وكالات التفتيش اليوم، تجنّباً لمحاكم التفتيش غداً…
يراهن هؤلاء على أن سوريا بعد ياسمين تونس وميدان القاهرة وجحيم القذافي، لن تكون سوريا ما قبل. فداخلها سيشغلها عن «لبنانهم»، وخارجها سيبعدها تدريجاً عن «لبنان الخصوم» ومحاوره الإقليمية. ويراهنون على المقولة الجدلية العتيقة، بأنه لا يمكن التاريخ أن يسير في لحظة واحدة، وفي مكان واحد، في اتجاهين متناقضين…
يراهن كثيراً مفكّرو الفريق الحريري. يتسلّحون بمعارضتهم الجديدة المربحة، وبالقرار الظني الحاسم، وبالدمقرطة السورية التدريجية المنشودة… لكنهم في مكان أكثر عمقاً من التفكير والتخطيط والرهان، في زاوية سوداء من العيون المغمضة والعقول المغلقة والصدور المقفلة، كأنهم ينامون على ورقة أخرى، كأنهم يتحسّسون في جيب مخفيّ من أكمامهم المضروبة، سلاحهم الأقوى والأكثر سرية: إنه سلاح المعركة على السلاح، أي الهجوم الأعنف بلا عنف، والضربة الأشدّ إيلاماً، في الموضع الأكثر عطوبة: 13 آذار 2011، ربع مليون نسمة يهتفون ضد حزب الله، فيما بلمار يستعدّ لقطع رأسه. كأنهم يفرشون له الطبق. عندها، ستكون الفتنة حتمية. والأكثر حنكة، استباقها بشعار «لا للفتنة». تقع الفتنة، أو تكاد، فيما سوريا تستعد لتأقلمها وتكيّفها وخوفها من المجهول. فماذا ستفعل دمشق عندها؟
ضربة معلّم تكون، أو استعادة لحصّة الأسد، أو استمرار لسياسة صلفة، بأيدٍ حريرية…
صحيفة الأخبار

السابق
بيضون: هناك برودة في العلاقة السعودية السورية
التالي
بري: كيف يخاف وليد جنبلاط من السلاح ولا يخافه هنري حلو؟