معاداة الضحية!

جمعة التظاهر في مصر

لأنه وحده…
فالإعلام كان ممر التمهيد المتاح للسيسي الذي يحكم من دون جهاز سياسي. الإعلام أشعل الارض والسماء بحالة هجوم فادح وللمرة الاولى على «الضحية». لم يلتزم بالعتاب المهذب للمجرم، ولكنه هذه المرة أعلن التوحد مع القاتل في مواجهة الضحية.
ولأنه ما زال في حكمه على «المؤسسة العسكرية» فإنه يفتقد ارض مناورة عاش فيها مبارك 30 سنة… واستثمر فيها مرسي بعضاً من الوقت القليل الذي حكم فيه.
ولم يكن غريباً ان قرار السيسي مثلاً بإغلاق المعبر قد وصف بانه «سياسي»، على لسان احد القادة العسكريين مطالباً بفتح المعبر، لأنه هنا لا بد أن تفارق مؤسسة السلاح مؤسسة الحكم… التي سارت على نهجها الأقصى في تصوّر الأمر على أنه «حرب… ضد حماس».
وهذا التصور يمكنه أن يؤدي الى نتائج جديدة تماماً على مستوى هندسة الصراع في فلسطين، خاصة مع صعود أطراف جديدة (فصائل فلسطينية وحركة خارج غزة) وتمويت فاعلية أطراف قديمة (بتوسيع المبادرة المصرية لتشمل كل الأطراف من مصر الى قطر مع حضور ايراني من بعيد ونزع للهوية الاخوانية من حماس ولعبها داخل عباءة ابو مازن…).
وفي سبيل ما يتصوّر أنه إنشاء واقع جديد… أخّر السيسي السرديات المتداولة سراً في السراديب وحولها الى خطاب رسمي. ولأن ذلك النوع من السرديات يروى كأنه حقيقة مخبأة في صناديق معتقة، فإنه عندما يأتي في خطاب للرأي العام وعلى لسان الجالس على المقعد الكبير المحصن بشعبيته قبل الانتخاب… فإن الخطاب يصبح محيراً… كيف مرت على العقل معلومة أن «مصر قدمت 100 ألف شهيد للقضية الفلسطينية؟». الأرقام ولو صحيحة تخص الحروب التي خاضتها مصر دفاعاً عن ارضها (1956، 1967، 1973) وفي 1948 كانت في مهمة وقف بناء كيان استيطاني عدواني على حدودها.
في السراديب متّسع لحكايات شعبوية تلغي العقل أحياناً لتبرر التعارض الذي نشأ ليفسر ما تعانيه مصر من أزمات على الشماعة الفلسطينية… ولا مكان هنا لعقل يسأل: «وبعد كل سنوات السلام لماذا لم تتجاوز مصر مرحلة الخروج من عنق الزجاجة؟».
السادات كان مغرماً بمجازات من نوع «عام الضباب» و«عنق الزجاجة»، وكان بالنسبة إلى كثيرين موهوباً في واقعيته لأنه استعاد الارض، بينما لم يكمل الواقعي واقعيته وينظر الى ما آلت اليه الارض، لأن واقعية من هذا النوع نشأت وترعرعت لكي لا نرى الواقع أو نغادره الى روايات السراديب التي تتحول فيها فلسطين الى ارض الاهوال والفلسطينيين الى شياطين والبيروقراطية المصرية الى عقلانية وحكمة…
هذه الواقعية خرافية مثل سابقاتها من: «إلقاء إسرائيل في البحر» و«سنصل الى عمق اسرائيل بعد اقل من 3 ساعات»، كما كانت الإذاعات تقول والجماهير تنتظر لحظة «فتح تل ابيب»… وحتى «99 في المئة من أوراق القضية في يد الامريكان» و«الرخاء بعد السلام» و«تخلصوا من العروبة الميتة».
الواقعيات تكسر بعضها حتى أصبح الوعي المصري عن فلسطين يشبه «فتافيت خطابات مطحونة» في أوانٍ قديمة ويستخدم حين تستدعيه الضرورة…. فيكون مواجهاً او محرجاً للنظام باعتبار موقفه من اسرائيل «عمالة وخيانة» ويكون هتاف «اول مطلب للجماهير… قفل سفارة وطرد سفير»، ورغم أن الجماهير كما هي إلا أن احداً لم يطالب اليوم بأشياء تتعلق بالسفير والسفارة فلم يعد شرخ الحنجرة ممراً جانبياً لإحراج النظام.
النظام نفسه اعتمد على واقعية جماهيره او استقرار خطابات السراديب في الوعي الباحث عن طريقة للنجاة (ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع) وهي حكمة تستخدم أحياناً لإعلاء الدنيوي على الديني ودائما من اجل الانسحاب من الشأن العام… وهذا ما قاله مساعد مدير الأمن في سيناء للمسؤولين عن حملة الإغاثة الطبية الى غزة (مصر تحتاج الدواء… لماذا ترسلونه إلى غزة؟).
ورغم أن «الدولة» نفسها ارسلت قافلة غذاء، لكن يبدو ان الضابط الكبير يتعامل مع القافلة الرسمية على أنها «بروتوكول حنان كلاسيكي» يحجز دوراً رسمياً لا سياسياً.
ويبدو أيضاً ان السرديات التي ألقيت للشعب في السراديب لم تعد بعيدة عن استخدام أجهزة الدولة في اعلى تمثيلها وهو الرئيس… بل انه اعلن للمرة الاولى عن انحياز الدولة المصرية الى مفهوم يرى فلسطين (الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية) وأن مذبحة «الجرف الصامد» لم تبدأ بالعدوان والحصار، ولكن بخطف المستوطنين الثلاثة.
كيف انهارت الحدود بين خطاب الدولة (في أكثر عصورها ركاكة حتى، وهو عصر مبارك) وسرديات السراديب… هل هي الهستيريا ضد الاخوان؟ تلك التي جعلت إعلاميين يظهرون بكامل انحطاطهم ليعلنوا شكرهم لنتنياهو وتحيتهم للذكورة الإسرائيلية… ومطالبتهم بـ«حرق الفلسطينيين»!
هذه الخطابات تدق بطبولها في كل مكان وتجد لها جوقة وصدى وكورساً كاملاً يضع «المصرية» في مواجهة «العروبة» التي أصرّت عقليات قديمة على وضعها في الدستور وأكدها السيسي في خطاب التنصيب وقبل ذلك بقليل في شعاره المثير «مسافة السكة».
وغالباً لم يكن الشعار معبراً او كاشفاً عن تدليل للحلفاء في الخليج او مسوقاً لحس امبراطوري مكبوت عند كل حكام مصر من محمد علي الى السيسي على ارضية «أنه لا يمكن لمصر الانكفاء على نفسها… لأن هذا يعني طمع القوى المحيطة… وإذا خرجت من حدودها سارعت نفس القوى الى كسرها».
الشعور بالمصرية «نعرة» بديلة للعروبة التي ظلت في سلطويتها ومدارها الايديولوجي «نعرة»، لكن استعادة الدور كما تراه أجهزة الدولة لن يتم الا عبر «العروبة» او المحيط العربي… وهذه تراوحات تعتمد على شفط الخطاب العاطفي الى آخره ومنتهاه وتحويله الى ارضية تخص القضية المصيرية الآن (العدو الاخواني) لتبدو الخيارات المتاحة من الدولة ورئيسها:
* إما ان تحافظ على عروبتك وقوميتك وترى الموضوع من زاوية حرب إنهاء حماس فقط…
* وإما أن تعلي خطابك ضد العروبة (والعرب جرب) وستمنحك فرصة استثنائية لاستعراض الخطاب الشوفيني الى حده المتطرف…
* واما ان تترك مواقعك الايديولوجية كلها وتقف معي والسلام…
ومن هذا الخلط تنتج أمزجة جديدة (عروبي ضد انتقاد الموقف المصري المقترب من اسرائيل/ وشوفيني يساند الفلسطينيين في حرب تحريرهم من حماس/ ودولتي يعاتب الدولة لأنها تساند أهل غزة).
الغياب كامل وتام لشعارات السرديات الإسلامية التي تدافع عن حماس ولا تجد قدرة على صياغة حضور خارج اصطفاف الصندوق الهوياتي المغلق.

السابق
اسود رد على الراعي: لا نقبل منكم هذه الاتهامات
التالي
صيدا تتذكّر مصطفى سعد