غزّة: تمييع الانتصار أم تفتيت الهزيمة؟

يفقد الصهاينة طاقة الحرب عندما يبدو لهم بأنّ المواصلة لا تقطع أمامهم باب «النصر» (مهما كانت التسمية المعتمدة لهذا اللفظ)، بل حين اليقين قاطعًا بأنّ الاستمرار يأتي بجميع المعايير فعل يأس ليس فقط من الرجوع إلى «نقطة الصفر» (أي قبل بدء العدوان)، بل حين تتردّى الحالة كلّ يوم دون أدنى أمل بالرجوع أو تحسين الوضع، سواء منه الميداني أو السياسي.

لذلك، كما كان الوضع أثناء العدوان الصهيوني على لبنان صيف 2006، حين جاءت المساعي لإخراج الهزيمة في شكل «نصر» أوّلا، وثانيا (والأهمّ)، «تلغيم» فترة ما بعد العدوان، بجملة من «الشروط» التي تريد من خلالها تفريغ «انتصار المقاومة» (سواء في لبنان أو في غزّة راهنًا) من أيّ معنى وبالتالي جعله إلى أقرب ما يكون إلى «لغم مؤقت» تريد تفجيره عن بعد.
يتّكل الصهاينة لتنفيذ هذه الخطّة، على راعي إرهابها الولايات المتّحدة الأمريكيّة أوّلا وعلى «أيتامه» من الخونة في المنطقة، الذين مارسوا سنة 2006 وهذه السنة في غزّة، دور «البوم الناعق» الذي لا يشكّك فقط في قدرات المقاومة وجدارتها، بل يطعن في شرعيّة وجودها ويعتبرها جزءا «من الجنون» أو هو «الاصطفاف» ضمن محور يعادي «الصهاينة» ليس خدمة للمشروع الوطني (الشامل) سواء في لبنان أو فلسطين خصوصا، بل مجرّد حرب بالوكالة أو «متاجرة بدماء الأبرياء».
توسيعا لدائرة الفهم، التي يريدها مرتزقة الصهاينة، ضيقة بحجم خياناتهم، وجب التذكير أنّنا أمام حرب قناعات أوّلا ومفاهيم انتبت عليها، ومن ثمّة لا يمكن للدوائر الضيّقة والمفاهيم المنقوصة والقناعات المهزوزة أن تشكّل ـ بأيّ صفة كانت ـ جزءا من منظومة فهم أو آلية ردّ، على هذا العدوان الغاشم ومن يقف وراءه أو معه.
نلاحظ في حال غزّة، كما كان أثناء العدوان 2006 على لبنان، من يذرفون الدمع في «لوعة» بخصوص «الدماء» التي أسالها العدوان الصهيوني، ومن ثمّة يكون «الخلاص» (خلاصهم)، بوقف العدوان (مهما كان الثمن ومهما كان الحال)، كأنّ الأصل في لبنان كما في فلسطين (وغزّة على وجه الخصوص) العيش «بأيّ ثمن كان وبأيّ شكل»، في تغييب (وهنا الخطورة بل الجريمة) لأّي «حقّ»، سواء منه التاريخي أو الإنساني بالمعنى الأوسع للكلمة.
في حال غزّة راهنًا، لا تكمن أزمة الصهاينة في عدد قتلاهم أو عجزهم البيّن عن التقدّم، بل ـ وهنا مصيبتهم ـ في أزمة المفاهيم لديهم، وعجز ما كانوا يرون ويعتبرونه «تفوقًا طبيعيّا» على «العنصر العربي» (الأغيار)، ليس فقط على أرض المعركة في بعدها العسكري المباشر، بل «ما قبل المعركة» حين عجزوا عن رؤية هذه الاستعدادات الرهيبة على أرض غزّة، ومن ثمّة كان وقع المفاجأة (في بعدها المعرفي)، أشدّ وأنكى من الهزيمة (في بعدها العسكري المباشر).
أزمة الصهاينة بل كارثتهم الكبرى أنّ صار همّهم التكتيكي ليس فقط في تضارب مع رؤيتهم الإستراتيجية، بل في التناقض بينهما، حين هم يهدمون بقبول شروط المقاومة (رغم أنوفهم) مشروع كيانهم على أسوار غزّة الصامدة.
لذلك جاء العنف الصهيوني تجاه المواطنين العزّل، هادفا لإثبات الذات أوّلا. الذات بمفهوم ما يسمّى «الجبهة الداخليّة»، وثانيا (والأهمّ) ابتزاز المقاومة (بمختلف فصائلها) بما يسيل من دماء الأبرياء، ليلعب «الطابور الخامس» دوره في المزايدة والتباكي، وأساسًا الحرص الأشدّ على هذه «الدماء».
لذلك، جاء المسعى بعد التسليم الأمريكي/الصهيوني بعبثيّة المواصلة وعدم جدوى الذهاب في هذا العدوان، لتمييع هذا الانتصار أوّلا من خلاف حجب ثماره عمّن زرعوا منذ سنوات أرض غزّة بالصواريخ والأنفاق، حين انبرى من كانوا بالأمس يسخرون من «عبثيّة الصواريخ» يزايدون على المقاومة ليكونوا «شركاء النصر» ومن ثمّة الانتفاع بثماره، سواء ما خصّ مسك معبر رفح، أو ـ وهنا الخطورة ـ إعادة السيناريو اللبناني من خلال «تغليب السلطة على المقاومة»، ومن ثمّة الانتقال بالتناقض الاستراتيجي مع المشروع الصهيوني إلى تناقض «داخلي» بين سلطة تعترف بها «الشرعيّة الدوليّة» من جهة، و«مقاومة» ترفض بسط نفوذ «السلطة» (كما كان حال «الدولة» في لبنان) على كلّ أراضي غزّة.
استطاعت المقاومة الفلسطينيّة في غزّة (بمختلف الفصائل وأذرعها العسكريّة) رفع سقف المطالب في تناسب مع الانجازات على الأرض، لتمحو ليس فقط «توازنات الماضي»، بل لتكسر بقيّة ما تبقّى من «قدرة الردع لدى الصهاينة» أوّلا، وأساسًا فتح المشروع الوطني الفلسطيني على أولى تجليات الكبرى: تحرير أرض فلسطينيّة بالكامل، أرضًا وبحرًا وجوّا.
لذلك جاء «إجماع» ما يسمّى (كذبًا) «الشرعيّة الدوليّة» على تمكين الصهاينة من فرصة كسر هذه «المكابرة الفلسطينيّة» ومن ثمّة الرجوع بها إلى ما تحت سقف «السلطة» التي تمثّل حالة لقيطة ضمن معايير القانون الدولي.
أزمة هذه «الشرعيّة الدوليّة» تكمن في عجز «التلميذ الصهيوني» ليس فقط في المهمّة، بل ـ وهنا الأخطر ـ في ما بدأ يدبّ في جسده من ترهل لا يبدو له ترياق، وما يبدو في المشروع من تشققات، يعجز أمهر البنائين عن ترميمها.
خسر الصهاينة وفقدوا أيّ قدرة على الردع، سوى قصف أبرياء في غزّة لم يزدهم عدد الشهداء سوى إصرارا على استكمال المشروع، حين شكّل الإصرار الشعبي والإجماع القائم على تحصيل الحق، الرافع الأكبر لمقاومة يؤلمها ما يسيل من دماء أهلها، لكنّه ـ وهنا الأساس ـ لا يمكن أن يشكّل ـ بأيّ حال ـ عامل ابتزاز بأي صفة كانت.
يمكن الجزم أنّ «عجلة المقاومة» تسير في اتجاه المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يستثني وينفي بل هو النقيض للمشروع الصهيوني في المنطقة، ممّا يعني أنّ المعركة لم تنته بعد أوّلا، وثانيا والأهّم، عجز أيّ جهة كانت عن إيقاف هذا المشروع. فقط أقصى ما يكون «تعطيل» هذا المشروع في بعض مراحله، لتشكّل هذه المراحل فرصة لتنقية الذات من شوائب شكّلت ذلك الطابور الخامس… إنّهم أغبى من فهم التاريخ وقراءة سيرته وصيرورته.

السابق
هذا آخر ما كتبه منجي حسن!
التالي
سقوط طائرة استطلاع سورية من دون طيار في الاردن