الشماتة في غزة

أسوأ ما فى المجزرة التى ترتكبها إسرائيل فى غزة، إضافة إلى القتلى والمصابين والدمار الهائل الذى يشل حياة أهلها، هى مشاعر الشماتة التى تسللت إلى نفوس كثير من المصريين كمرض خبيث، وقد طالت هذه المشاعر نخبة من الكتاب والإعلاميين، الذين وجدوا فى هذه النكبة الجديدة فرصة لتصفية الحسابات مع حماس، ولا يدرون أنهم بذلك يتوحدون مع مشاعر الضغينة والبغضاء التى يكنها الإسرائيليون لكل ما هو فلسطينى، ولكن مشاعر إسرائيل على بشاعتها مبررة، فهى تعلم جيدًا أن وجودها لن يكون آمنا إلا إذا أبادت أهل البلاد الأصليين عن بكرة أبيهم، واستولت على فلسطين بكامل حدودها التاريخية، وقد تعلمت الدرس جيدًا من تجارب الاستعمار الاستيطانى السابقة، فقد نجح البيض فى أمريكا، لأنهم أبادوا الهنود الحمر، ونجحوا فى أستراليا، لأنهم استأصلوا «الأبواروجن»، لم يتركوا منهم إلا أعدادًا لا تذكر، بينما فشلت فرنسا فى الجزائر والبيض فى جنوب إفريقيا لأن السكان الأصليين بقوا وصمدوا وواصلوا التمسك بأرضهم، تدرك إسرائيل أن فشلها يكمن فى وجود غزة وأهلها، مجرد وجودهم فقط يمثل خطرًا على مستقبلها، وإذا أضيف إليهم العرب الموجودون فى الضفة الغربية وفى داخل إسرائيل نفسها يصبح الخطر داهمًا، غزة هى قنبلة موقوتة، وإسرائيل تسعى دائما لتنفجر فى ناسها دون أن يصيبها هى أى خطر، لذا تدبر فى كل حين من الزمن مجزرة جديدة، لا تأبه فيها بالقانون أو النوازع الإنسانية، لكن تستخدم فيها أحدث ما تملك فى ترسانتها العسكرية، صواريخ تقنص المارة، وطائرات نفاثة تدك البيوت على رؤوس من فيها من نساء وأطفال، وبوارج حربية تدمر قوارب الصيد الصغيرة، هى دائما حرب غير متكافئة، وغير عادلة، وتكلفتها مدفوعة سلفًا من آلة الحرب الأمريكية، وهو منطق الإبادة الذى لا ترى إسرائيل بديلا عنه، المشكلة أنها فى ظل توازنات العالم المعاصر لا تستطيع أن تقوم بعملية الإبادة الجماعية دفعة واحدة، لذا تنفذها على مراحل، وتحت ذرائع مختلفة، وستفعل ذلك مع بقية العرب الموجودين فى داخلها، فإما أن تقتلعهم بالنزوح الإجبارى، وإما تقتلهم داخل سجونها، هذه هى إسرائيل، وهذا هو منطق وجودها مهما كان قاسيًا وخاليًا من الإنسانية، فماذا عن موقفنا نحن؟ وما سبب كل هذا الحجم من الكراهية الذى يوحدنا مع أعدائنا؟!

 

إننا نحملهم عبء فشل الثورة المصرية، دم الشهداء الذى ضاع، القتلة الذين أفلتوا من العقاب، الإرهابيين الذين يعيثون قتلاً فى جنود سيناء، والقنابل الموقوتة المندسة بين بيوتنا، نحملهم حالة الخوف وعدم الأمان، وذلك العجز والتردى اللذين نعانى منهما، فقط لأن هناك فصيلا منهم يدعى «حماس»، تابعا للإخوان المسلمين، اخترعنا أسطورة معاصرة لنبرر هذه الكراهية، فأى أسطورة لا تنشأ من فراغ، ولكن من جذور واقعية، من حادثة كبرى تحفظها الذاكرة الجمعية للناس، تتحور مع مرور الزمن، وتكتسب مسحة غرائبية، تبعدها عن أصلها الواقعى، وهذا ما فعلناه، حوّلنا واقعة ميدان التحرير إلى أسطورة، أسقطنا الذاكرة الحية، وتجاهلنا القتلة الحقيقيين، وتقارير لجان تقصى الحقائق التى حددت بدقة ووضوح من قام بقتل المتظاهرين، برأنا القتلة رغم أنهم اعترفوا ضمنا بفعلتهم وهم يدورون من بيت لبيت ليدفعوا دية القتلى، ويرغموا الأهالى عن التنازل عن قضايا قتل أولادهم، ومن قام بدفع الحيوانات وسط جموع المتظاهرين، ومن سمح لهم بالعبور، ومن اعتلى أسطح العمارات ليقتنص المتظاهرين، صدقنا أسطورة مغايرة لكل هذه الوقائع، تقول إن مجموعة من القتلة المسلحين من «حماس» استطاعوا أن يعبروا الأنفاق، بصحبتهم «بلدوزرات» ثقيلة، ساروا بها أكثر من 500 كم، فى صحراء مكشوفة، دون أن يقابلهم أحد، وتجاوزوا مدنا آهلة بالسكان دون عائق، حتى وصلوا إلى منطقة السجون القريبة من القاهرة، فاقتحموا 11 سجنًا دفعة واحدة، وأفرجوا عن أعضائهم المسجونين، وأعضاء التنظيم التابعين له، ومنهم الدكتور محمد مرسى، ثم توجهوا بعد ذلك إلى ميدان التحرير فقتلوا المتظاهرين، وأحرقوا أقسام الشرطة، وقتلوا بعضًا من الأهالى أمامها، ثم اجتازوا نفس المسافة الصحراوية الممتدة وعادوا إلى أنفاقهم دون أن يمسك بهم أحد، ودون أن يراهم أحد إلا شخص وحيد هو اللواء عمر سليمان، الرجل الذى خرج من قلب النظام السابق ليحميه ويحمى جهاز الأمن التابع له من شبهة إصدار أى أوامر بالقتل، أصبحت هذه الأسطورة هى الحكاية المعتمدة والتى تمسكت بها كل الأطراف لتدفع بها التهمة عن نفسها، تمسك بها مبارك ليبرئ نفسه من قتل المتظاهرين، وتمسكت بها الشرطة ووجدوا فيها منفذًا لإسقاط التهم عن أفرادها دون حاجة إلى دفع الديات، وتمسكت بها فلول النظام التى طالتهم الاتهامات فى موقعة الجمل، ودفع فلسطينيو غزة ثمن هذه الأسطورة المبتذلة، فأغلقت المعابر فى وجوههم ودمرت أنفاقهم، وأضيف إلى كل ذلك مشاعر الشماتة التى نشعر بها الآن أمام هذه المذبحة المستمرة، وسط صمت يشبه التواطؤ، لقد أصبحنا أسرى لكراهية غير مبررة، فقدنا روح التعاطف ومشاعر الأخوة، وأصبحنا شهودًا خُرسًا على واحدة من أبشع جرائم الإبادة التى تمارسها إسرائيل، وأصبحنا، دون أن ندرى، شركاء فى هذه الجريمة.

السابق
غزّة تحت مرمى نيران الإعلام المصري
التالي
عفيف إلى «الإعلام» مجدداً والموسوي إلى «المنار»