من دولة وصاية عسكرية إلى دولة مدنية بوليسية

 يواجه النموذج التركي تحدًّياً جديداً غير مسبوق. فبعد النجاح في تحويل السلطة العسكرية إلى سلطة مدنية في السنوات الأخيرة على أيدي “إسلاميي” رجب طيب أردوغان هناك احتمال تحويلها إلى دولة مدنية بوليسية على الأيدي نفسها.

أقرّ البرلمان التركي مؤخراً قانوناً يوسّع صلاحيات “جهاز المخابرات الوطني” (MIT). القانون يعطي لهذا الجهاز مجالات كبيرة من حرية الحركة غير الخاضعة للمساءلة المباشرة أو القابلة لالتباسات التغيير التي تتيح سوء استخدام السلطة كما رأى الكثيرون، سواء من أحزاب المعارضة التركية التقليدية، أو من مثقفين ومعلّقين ليبراليين غير منتمين للأحزاب.
وفي العديد من التعليقات على هذا القانون الذي نجح رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان في تمريره بعد أن أفشلت المحكمة الدستورية التركية قانون التضييق على تويتر ويوتيوب… فـي العديد من هذه التعليقات صدرت تحذيرات جادة من أن تتيح صلاحيات المخابرات الجديدة لهـذا الجهاز الذي يرأسه أحد أهم أعضاء فريق أردوغان الحاكم التعامل مع المنظمات الإرهابية والتكفيرية التي سبق أصلاً للمخابرات التركية أن نظّمت العلاقة معها ضمناً بعد نشوء الأزمة السورية.

هناك مفارقة عميقة في هذا التحوّل إذا نجح أردوغان في تكريسه على المدى الأبعد، هي أنّ هذا الجهاز هو جزء من “الدولة المدنية” التي تمكّن من تكريسها منهياً عقوداً من الوصاية العسكرية على الدولة وعلى الحد الملموس الذي كانت تركيا قد بلغته في مجال الحكم الديموقراطي. لكننا هنا سنصبح، وقد أصبحنا لاسيّما في السنة الأخيرة، أمام معضلة معقّدة سواء في الواقع اليومي للوضع التركي أو في دراسة مضمون ما آل إليه نظام الحكم التركي.
الدولة التركية باتت دولة مدنية في السنوات الأخيرة لكن النمط الذي أدار به رجب طيّب أردوغان التحديات التي واجهته تجعلنا أمام احتمال نموذج مستجد: نعم دولة مدنية وإنما بوليسية تنحرف نحو صيغة عالمْ ثالثية بكونها تحت سطوة المخابرات، التابعة للسلطة السياسية. هكذا يعني أنه بسرعة تظهر الممارسات السلطوية لرجب طيّب أردوغان وفريقه منذ بدء اعتراض شرائح شبابية متنورة في المدن الكبرى على سياسته، انطلاقاً من أحداث “جيزي بارك” إلى فضائح الفساد التي واكبتها ردود فعله الانفصالية بتبنٌيه نظرية “المؤامرات الخارجية”. كل ذلك يجعل الديموقراطية التركية حتى في حدودها المدنية الحالية معرّضة لانتكاسات كبيرة بدأت أصلاً.

وصف “عالمْ ثالثي” لممارسات السلطة استخدمه أصلاً قبل فترة وجيزة رئيس الجمهورية التركية عبدالله غول الشريك التاريخي لأردوغان في تأسيس “حزب العدالة والتنمية” عندما حذّر في خطوة جديدة علنية من انحرافات عالمْ ثالثية في ممارسة السلطة بل أعلن بالحرف الواحد مؤخراً “لن أمارس السياسة تحت هذه الشروط” ويقصد ما بدأ ينتقده منذ قمع الطلاب والفنانين إلى إقرار القوانين الأخيرة. في المقابل يبدو أن رئيس الوزراء أردوغان أصبح أكثر اقتراباً من مشروع ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في سعيه لتعزيزها بصلاحيات قويّة بحيث يكون رئيساً على نظام رئاسي وليس برلمانياً كما هو الوضع الحالي. وإذا لم يستطع تعزيز الصلاحيات فهو يريد أن يأتي كرئيس للجمهورية مسيطراً على رئيس الوزراء الجديد عبر كاريزماه الشعبية والحزبية. هذا على الأرجح ما يريد أن يقوله عبدالله غول وهو أنّه لن يكون له دور في هذا السيناريو.

بعض هيئات الرقابة الدولية حذّرت أيضاً من أنّ أحد أكبر الخاسرين المحتملين مع الصلاحيات الجديدة للمخابرات سيكون الصحافة وهذا لا يحتاج إلى كثير إثبات لأنّ مشكلة أردوغان مع العديد من الصحافيين، سوى صحافة حزبه والمؤيّدين له، أكثر من متفاقمة بممارسة الضغوط أو حتى أحياناً بالاعتقالات في بلدٍ من المدهش أن تكون أعداد الصحافيين فيه الموجودين في السجون، لأسباب مختلفة، من أكبر نسب دول العالم. وهذا إلى اليوم يتناقض مع القابليات بل النجاحات التحديثية الجادة التي قدّمها “النموذج التركي” في المجالين الاقتصادي والسياسي منذ عقود ولاسيّما في العقدين ونصف الأخيرين ناهيك عن انجاز التحوّل نحو الدولة المدنية في السنوات العشر الأخيرة .

أحد المعلّقين الأتراك المعروفين البروفسور شاهين ألباي الأستاذ في العلوم السياسية كتب يوم الإثنين الماضي أن ثنائية بوتين – مدفيديف التي يسيطر عليها الرئيس الروسي بوتين بالانتقال الآمن من رئيس جمهورية إلى رئيس وزراء ثم من رئيس وزراء إلى رئيس جمهورية لن تحصل في حالة أردوغان – غول. على أنّ صحيفة “حريات” قالت إن أسهم وزير الخارجية الحالي أحمد دافيد أوغلو لتولّي منصب رئيس الوزراء في ظلّ رئاسة أردوغانية للجمهورية تزداد في الفترة الأخيرة بعد المسافة التي وضعها عبدالله غول.

الكثيرون بين قادة أوروبا وبين مراقبي المنظمات الدولية غير الحكومية إضافة إلى مراقبين أتراك مرموقين باتوا قلقين منذ أشهر مما يسمونه “النزعة الأكثروية” التي يتبنّاها رجب طيب أردوغان بشكل متزايد في تفسيره للديموقراطية، مع العلم أنه حتى في دول أكثر تقدماً في مجال الحريات من تركيا لم يقف السجال حتى اليوم حول معادلة أنّ الديموقراطية ليست فقط حكم الأكثرية بل هي بالضرورة متلازمة مع حكم القانون. وليس عابراً أن يشبِّه مدّعي عام إيطالي سابق بارز، واجه قضايا الفساد والمافيا في إيطاليا، حكم أردوغان بحكم رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلوسكوني.

للتذكير حول نقطة تزيد الوضع تعقيداً هي أن أردوغان نجح بتحويل نفسه ضمن الحياة السياسية التركية إلى المحاور الأوّل للأكراد رغم الغموض الذي لا يزال يحيط بمشروع الإصلاحات حول مساهمة الأكراد في الحياة السياسية. إنما في الوقت نفسه اتُهمت المخابرات التركية في الصيف الماضي باغتيال ثلاث نساء كرديات قياديات في حزب العمال الكردي (PKK) في شقة في باريس في ما اعتُبر، وما زال الأمر في مجال الاتهام، لعبة أو محاولة لإضعاف جناح معارضي الحوار داخل حزب العمال بين جهاز المخابرات (MIT) وبين زعيم حزب العمال عبدالله أوجلان السجين في جزيرة إمرالي التركية قبالة سواحل اسطنبول منذ العام 1999.

جدير بالإشارة أنّ قانون المخابرات الجديد ربما واجه اعتراضاً أو رفضاً من المرجعيّتين المتبقّيتين للنظر فيه وهما أولاً رئيس الجمهورية ثم المحكمة الدستورية.
لتعبير “الدولة المدنية”، وعن حق، وقع شديد الإيجابية في منظومة القيم السياسية لعالمنا المعاصر لكننا نشهد أيضاً في العالم أنظمة مدنية وإنما ليس تحت حكم القانون. وواحد من أكثر الأمثلة ذات المعنى الرمزي التي قرأتها قبل أكثر من شهرين هي مثال مصطفى أكول المعلّق التركي حين دعا تركيا – وهذا يحصل للمرة الأولى بالنسبة للعالم العربي – إلى اتّباع “النموذج التونسي” بعد إقرار المجلس التأسيسي التونسي للدستور الجديد المتضمن لحزمة متماسكة من الحريات السياسية والدينية والاجتماعية لا سابق لها في تاريخ الدساتير العربية المعاصرة. الرمزية هنا ليست فقط في دعوة تركيا المفترض أنّها متقدّمة عن محيطها العربي إلى اتّباع النموذج التونسي وإنّما في أنّ تونس نفسها كانت قبل الثورة تعيش في نظام مدني بوليسي لا مجال فيه لحكم القانون ولا للتمثيل الديموقراطي الفعلي.

السابق
السلسلة: هفوات واضحة وأخطاء فادحة
التالي
جنبلاط باقِ على حلو.. حتى التسوية