ما سرّ انقلاب عون وجنبلاط على ’السلسلة’؟

تحوّل مشروع سلسلة الرتب والرواتب الى ما يشبه التسونامي الشعبي والسياسي، وجرفَ في طريقه حتى الان ضحايا بالجملة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انّ لائحة الضحايا قد تطول، وهناك مخاوف من أن يكون الاقتصاد في النتيجة على رأس قائمة «شهداء» المعركة.

واجه مشروع سلسلة الرتب والرواتب منذ انطلاقته مشاكل ومطبّات كثيرة، لعلّ أخطرها كان يكمن في ثلاثة عناوين:

اولاً – العشوائية في مقاربة ملف تبلغ تكلفته حوالى الملياري دولار سنوياً.

ثانياً – غياب الشفافية في المواقف السياسية، بحيث كانت اللغة مع الناس ومحاكاة الغرائز، تختلف عن القناعات واللغة المُستخدمة بين الجدران الاربعة.

ثالثاً – المزايدات السياسية، والتي جرفت معها هذه المرة ضحايا من السياسيين أنفسهم.

في كواليس السلسلة، هناك مجموعة من الحقائق التي بقيت طيّ الكتمان. واذا كانت مواقف الافرقاء السياسيين المعلنة معروفة الأهداف، فإنّ الحركة الالتفافية التي قام بها رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط كانت مفاجئة.

وتماماً، مثل التفافاته الحادّة في السياسة، أنجز جنبلاط إعادة تموضع جذري في الملف الحياتي الاقتصادي، من خلال الانقلاب على السلسلة، والمطالبة بإلغائها من اساسها، وليس فقط ترشيقها لتصبح أكثر ملاءمة للاقتصاد.

والمفارقة في الموقف الجنبلاطي انه جاء عقب محطتين سابقتين أوحيَتا بأنه داعم للسلسلة حتى النهاية، انطلاقاً من مفهوم الحزب الاشتراكي الذي يدعم القضايا العمالية، ويتصدّى للخصخصة، ويقف دائماً الى جانب الطبقة الكادحة، كما يسمّيها، في وجه الرأسمالية. ففي الجلسة النيابية الاخيرة غادر النائب الجنبلاطي علاء الدين ترو القاعة احتجاجاً على ما سمّاه عدم رغبة النواب في فرض ضرائب على الاغنياء، لتمويل السلسلة.

والمحطة الثانية تمثّلت بزيارة قام بها وفد جنبلاطي، بطلب من جنبلاط، الى مقر هيئة التنسيق النقابية لإعلان التأييد لمطالب الهيئة المحقّة في السلسلة. فما الذي جرى لكي يبدّل زعيم المختارة موقفه بين ليلة وضحاها؟

الاجابة عن السؤال موجودة جزئياً في الكلام الذي قاله الرئيس فؤاد السنيورة في الجلسة النيابية الأخيرة، حيث عدّد مواضع الضعف في الاقتصاد والمخاطر المحدقة به. ومن بين كلّ ما قاله السنيورة، ينبغي التركيز على نقطة اساسية هي التي حرّكت جنبلاط بشكل خاص.

إذ وردَ في كلمة رئيس الحكومة السابق، ما حرفيته، «انّ نظامنا التقاعدي في القطاع العام هو الأكرم في العالم قاطبةً. وانّ النظام التقاعدي المعمول به في الأسلاك العسكرية لدينا لا يضاهيه نظام تقاعدي في العالم على الإطلاق في كرمه».

ومن الواضح انّ جنبلاط تلقى تقريراً حول حجم هذه التعويضات، والزيادات التي ستطرأ عليها في حال إقرار السلسلة، فقرّر في حينه الانتقال من موقع المدافع عن المشروع الى موقع المُطالب بإلغائه من أساسه. وهكذا فقدت هيئة التنسيق مدافعاً مهمّاً عن السلسلة.

في المقلب الآخر، كان موقف الجنرال ميشال عون شبيهاً بموقف جنبلاط، لجهة الانعطافة من موقع المطالبة بإقرار السلسلة، بل بتبنّي إنجازها من خلال الدور الذي أُعطي للنائب ابراهيم كنعان، الى موقع السائرين في رُكب التأجيل والتريّث.

وما لم يكن معروفاً في العلن هو انّ موقف عون تبدّل قبل فترة من الاعلان عن ذلك. إذ، وبينما كانت بيانات تكتل التغيير والاصلاح تشير الى دعم التكتل للسلسة، كان عون يبعث برسالة شفهية الى رئيس الحكومة تمام سلام مفادها انّ مشروع السلسلة يشكل خطراً على الاقتصاد ولا بد من إيجاد مخرج لهذا المأزق. هذه المراسيل تمّت قبل أن يعرف كنعان بالموقف المستجِد. وهو كان في طور الدفاع عن مشروعه في اللجان المشتركة، ظنّاً منه انّ الامور لا تزال على حالها من جهة التكتل الذي يمثّل.

لكنه عرف متأخراً بالانقلاب غير المعلن، وأدرك انّ عليه فرملة اندفاعته ومراجعة حساباته. وهو لم يكد يبتلع بعد ملف «الإبراء المستحيل»، الذي روّج له كنعان بالطبل والزمر بتشجيع الجنرال ومباركته. لكن تشاء الصدف أن تتغيّر الحسابات السياسية، وينجح مشروع الانفتاح على تيار المستقبل، فيصبح «الإبراء المستحيل» بمثابة ثقل معنوي ينبغي التخلّص منه، وهكذا تكرّر الامر في ملف «السلسلة».

ومن هنا، فضّل كنعان عدم المشاركة في الاجتماع الاول الذي عقدته لجنة «السلسلة»، وترك تمثيل التكتل لزميله آلان عون. وتلقى كنعان سيلاً من الانتقادات على المشروع الذي أنجزته اللجنة النيابية التي ترأسها، مع انّ كل الكتل كانت ممثلة فيها، وحظي المشروع بموافقتها جميعاً، بما يُبعد عن كنعان تهمة الخطأ في حال وجوده. لكن في السياسة لا مكان للرحمة، ومَن ارتضى ان يؤدي دور رأس الحربة، عليه ان يدفع الثمن اذا تبدلت المصالح والحسابات، وهذا ما جرى بالتحديد.

اليوم، بات المشروع في عهدة اللجنة التي انبثقت عن الاجتماع الأخير للهيئة العامة في ساحة النجمة. لكن من البديهي انّ الاولوية حالياً هي لاستحقاق الانتخابات الرئاسية، ومن الصعب التصديق انّ المشروع سينتهي في الوقت المحدد له، وانه سيتم إقراره قبل العهد الجديد.

هذا إذا كان الاستحقاق الرئاسي سيُسفِر حتماً عن انتخاب رئيس للبلاد، لأنّ الحديث عن فراغ طويل، واحتمال الذهاب الى مؤتمر تأسيسي، ينتشر في الصالونات السياسية بسرعة انتشار الحريق في الهشيم في موسم الحر.

السابق
ابي نصر نوه بحزم المشنوق في مسألة السلاح الفلسطيني
التالي
جريحان في حادث سير على طريق المتحف البربير