مشى في عرس سوريا ومشى في جنازتها

قرأت ثلاثة كتب لباتريك سيل. الأول كان الكتاب الذي منحه ليس فقط الشهرة بين قرّاء السياسة في الشرق الأوسط أو خارجه بل أيضاً في الأوساط الأكاديمية، وهو كتاب “الصراع على سوريا” . في هذا الكتاب نجح باتريك سيل في تأريخ سنوات التحوّل السوري وقابليتها ومسارها في الخمسينات باتجاه ما سيصبح الوحدة المصرية السورية بقيادة جمال عبد الناصر. وأظهر بدقة عالية أدوار الشخصيات السورية والمصرية والعربية في صناعة هذا التحوّل، أو ربما بعضها في الرضوخ لهذا التحوّل. حتى أنني كقارئ ومراقب دهشت عندما قرأت مذكرات محمود رياض سفير عبد الناصر في دمشق في تلك السنوات ودينامو التواصل المصري مع السياسيين السوريين كيف أن باتريك سيل وصل، ولم تكن مذكرات محمود رياض قد صدرت، إلى عدد كبير من المعلومات والاستنتاجات نفسها بحكم البحث والتنقيب والجهد التي وصل إليها بالمعلومات أحد صنّاع القرار في تلك المرحلة محمود رياض.

كتابه الثاني الشهير عن حافظ الأسد، وتجربته هو في الواقع، خليط جذّاب من أمرين متناقضين أحسن التعايش بينهما باتريك سيل. الأول هو عرض وجهة نظر الرئيس السوري الراحل منذ كان طالباً ثم ضابطاً لاجئاً ثم ضابطاً حاكماً ثم حاكماً وحيداً على سوريا. والأمر الآخر هو تمريره لعدد من المعلومات وبعضها على لسان الأسد ليست بالضرورة مؤاتية للبروبغندا الأسدية.
وأتذكّر معلومة من أهمّ ما ورد في الكتاب هي اعتراف حافظ الأسد بأنّ دمشق عاشت ثلاثة أيام بعد ٥ حزيران ١٩٦٧ بلا سلطة.حافظ الأسد اعتبر ذلك دليلاً على وطنية الشعب السوري، وكان هو وزير الدفاع في تلك المرحلة، إذ لم تحدث أية محاولات تمرّد أو شغب أو انقلاب، ولكن باستطاعة قارئ آخر أن يعتبر على ضوء هذه المعلومة أنّ سلطة حزب البعث بل حتى الدولة تلاشت ثلاثة أيام كاملة وكان بإمكان أيّ كان من القوى الراغبة المعارضة أن يلتقط هذه السلطة “المرمية” في الشارع ويسيطر عليها مما يدلّ على شمولية وعمق الهزيمة وإحساس مسؤولي تلك المرحلة بهذا العمق الذي يبلغ حدّ الاستسلام.

كتابه الثالث موضوع أكثر صعوبة من الناحية التقييمية، لأنّ الذي حدث في السنوات الأ خيرة ولم يمض عليه زمن طويل هو أنّ ثلاثة كتّاب معروفين بينهم مؤرخان بارزان انكبّ كلّ منهم وبتكليف مختلف عن الآخر على كتابة سيرة الزعيم اللبناني الراحل رياض الصلح. وهم إلى باتريك سيل، أحمد بيضون وكمال الصليبي. لذلك فإنّ الكتابة عن كتاب باتريك سيل حول رياض الصلح يجب أن تكون بالضرورة مقارنة بين نتاج كل من هذه الأسماء اللامعة والرصينة حول الموضوع نفسه وهو ما لن أفعله الآن لأنني قرأت الكتب “الرياضية” الثلاثة مبكراً وبعضها كان لا يزال مخطوطة. فهذا العمل يحتاج إلى تدقيق أوسع لا تسمح به ظروفي الآن وأنا بعيد عن مكتبتي. إنما تجب الإشارة بشكل عام إلى أنّه بقدر ما تميّز أحمد بيضون في توثيق مصادر المراحل التي عاشها رياض الصلح وخصوصاً دوره في فرنسا، في التحضير للإستقلالين اللبناني والسوري، وبالأخص رصده للتحولات اللبنانية والعربية ومعانيها حتى نشوء دولة اسرائيل إضافة إلى الأسلوب المزدوج الذي اعتمده كأنّه يكتب كتابين في كتاب واحد؛ وبقدر ما وضع كمال الصليبي كل خبرته في المنطقة والتوازنات العربية-والدولية واللبنانية ومعرفته بجذور تشكّل المنطقة السياسي والإتني؛ فإنّ باتريك سيل تميّز بخصب الوثائق البريطانية التي اعتمد عليها وبـ”سوسيولوجية” خبرته الدمشقية سواء عبر العيش أو عبر المصاهرة.

التقيت باتريك سيل للمرة الأخيرة في أواخر العقد المنصرم عندما كنت أشارك في ندوة نظّمها المعهد النروجي في المبنى التراثي الرائع الذي اشتراه داخل الأسواق القديمة المتفرّعة عن سوق الحميدية في دمشق. وكان هناك عدد من المشاركين الأتراك والأوروبيين في تلك الندوة التي كانت تدور حول العلاقات السورية- التركية والعربية-التركية في تلك الفترة التي كانت تشهد ذروة التقارب السوري- التركي قبل أن تبدأ بالانحدار بعد أقلّ من سنتين. كان باتريك الذي لم أعرفه عن قرب يوماَ، إنما كنت ألتقيه في بعض المناسبات، يتحبّب إليّ بدماثته العالية ويتكلّم معي بلغة عربية مقبولة. لم أفتح معه سيرة كتابه عن رياض الصلح الذي كان في طور التحضّير خصوصاَ وأنني كنت أعرف بعض الخلفيات عن الكتب الثلاثة حول رياض الصلح أو ما كان يسمّيه أحمد بيضون ساخراَ “نقابة كتّاب رياض الصلح”. ولم أفتح معه بطبيعة الحال، ما قيل إنّه المبلغ السخيّ الذي حصل عليه مقابل إعداد كتاب عن رياض الصلح والبالغ مليون دولار. وليس من عيب في ذلك فالمشكلة ليست أن ينال كتّاب محترمون حقهم بما يوازي جهدهم وكفاءتهم وإنّما المشكلة حين لا يحصل كتّاب أكفّاء على ما يستحقون مقابل انتاجهم.

في كل الحالات كان رهان الذين كلّفوا باتريك سيل في مكانه، لأنّهم أرادوا الاستفادة من التجربة الناجحة وذات الدوي التي قام بها في كتابة سيرة حافظ الأسد أيّاَ تكن الآراء السياسية في تقييم الكتاب.
لعلّ سوريا التي نعرف ماتت قبل أن يموت باتريك سيل وهذا، لا شك ودون أن يخبرني أحد، كان أليماَ جداَ على باتريك سيل الذي أحبّ هذا البلد وبعض أبناء باتريك أخوالهم دمشقيون وأعتقد أنّه لو قُدّرت حياة أطول لباتريك سيل لكان كتابه الأخير سيكون، إذا سمحت لنفسي باستعارة عنوان بول كنيدي الشهير عن الولايات المتحدة، عن صعود وهبوط الكيان السوري.

لا شك أن الأوساط الصحفية والأكاديمية المتخصصة بالشرق الأوسط أو المتابعة له قد خسرت مع باتريك سيل مرجعاً ذا وزن في شؤون المشرق العربي تكاملت فيه خبرته الصحفية منذ الستينات مع دأبه البحثي وعلاقاته الواسعة مع جيل بكامله من المنطقة وخارجها.

هكذا يتصادف أحياناً غياب كاتب مع غياب حقبة، وهو غياب ليس محسوباً بالضرورة بالموت وحده بل بقابلية تغيّر ديناميات التحوّل الصادمة. فهذا الكيان السوري، الذي يقول ستيفن هايدمان في كتابه عن السلطوية في سوريا 1946-1970 إن السفارة الأميركية في دمشق كانت مهتمة في أوائل الخمسينات بنشاطات النقابات والاتحادات العمالية والهيئات الإقتصادية والبرجوازية الوطنية أي أنها كانت مهتمة ببلد صاعد وذي بنية، أصبح الآن بلد حرب أهلية ضروس لم نعد نعرف ماذا سيبقى من بعدها.

السابق
لا جديد عملي على العلاقة بين «حزب الله» و«تيار المستقبل»
التالي
السعد عن «14 آذار» ورئاسة الجمهورية : «مش مفهوم شي»